الحوكمة والديموقراطية

الحريّات الدينية في الدساتير التونسية: بين المعمول والمأمول

تُعد الحريّة الدّينية من الحقوق الأساسية التي حَظيت باهتمام مختلف الدساتير التونسية التي استندت تاريخيًا إلى إرثٍ دستوريّ برز منذ القرن التاسع عشر وتَمَثََّلَ خاصّةً في ثلاثة قوانين أساسية هي عتق الرقّ (1846) وعهد الأمان (1857) ودستور (1861)، وهي القوانين التي شكّلت أرضيةً ملائمةً للحركة الوطنية التونسية خلال الفترة الاستعماريّة ما بين 1881 و1956، إذ حمل أوّل حزب سياسيّ في البلاد صفة "الدستوري" (الحزب الحرّ الدستوري التونسي 1920) نسبةً إلى دستور 1861. وبعد استقلال البلاد، تمّت صياغة ثلاثة دساتير في فترات تاريخية انتقالية: الأوّل دستور 1959 (دستور الاستقلال)، والثّاني دستور 2014 (دستور الثورة)، والثّالث دستور 2022 الذي يختلف عن الدستورَيْن الأوّلَيْن من حيث كيفيّة صياغته. ومن بين القضايا "الفارقة" في تلك الدساتير الاهتمام بمسألة الحرّيات الدينية بمضامينها وأشكالها المختلفة.

الحريّات الدينية في الدساتير التونسية: بين المعمول والمأمول

يُمثّل "عهد الأمان" وثيقةً قانونيةً مُهمّةً اشتملت على أحد عشر فصلًا، إذ قضت المادة الرابعة منه على أنّ "الذميّ من رعيتنا لا يُجبر على تبديل دينه ولا يُمنع من إجراء ما يُلزم ديانته ولا تُستهان مجامعهم ويكون لها الأمان من الإذاية والامتهان لأن ذمّته تقتضي أنّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا". وهو ما يُمثّل إقرارًا بحُريّةٍ يعتبرُها فقهاء حقوق الإنسان "أُمّ الحريات".

كما نصّت المادة الثالثة على المساواة بين المسلمين وغيرهم من سكان البلاد في الحقوق والواجبات، بما في ذلك حريّة ممارسة الطقوس الدينية. وأكّد العهد أيضًا على أنّ جميع سكان تونس، بغضّ النظر عن ديانتهم، يتمتّعون بالأمان نفسِه والحماية نفسها. كما اشترط عدم الإساءة أو الإهانة لمجامع أيّ ديانة. ولم يشترط عهد الأمان أيّ تفريق في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغير المسلمين، بل دعا إلى تطبيق القوانين نفسها على الجميع مثلما ورد في الفصل الأول منه: "الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة".

الدساتير لم تكن ثمرة تطوّر داخلي للمجتمع التونسي بل كانت نتيجةً لضغوط القوى الاستعمارية

أمّا دستور 1861، المعروف باسم دستور الباي (نظام البايات) فضمّ 19 فصلًا، أكّدت بعض فصوله على كلّ الحقوق الواردة في عهد الأمان للتونسيين ولغير التونسيين باختلاف الأديان، كما أكّد على حريّة المُعتقد والتعامل مع جميع السكان على قدم المساواة من دون تمييز بسبب ديانتهم وفي ممارسة حقوقهم، وأقرّ الحريّة كمبدأ (الفصل 16) في أنّه "لا يُجبَر أحد منهم على تبديل دينه كما لا يُمنع من الانتقال إلى غير دينه".

لم تنجح هذه الإصلاحات على أهمّيتها في بناء دولةٍ حديثةٍ ومستقلة، فقد عرفت البلاد، في تلك الفترة، أزمةً اقتصاديةً خانقةً نتيجة تصاعد مصاريف البايات الاستعراضية، وإنفاقها في بناء وتشييد القصور. ولمواجهة هذه المصاريف أثقلت الحكومات كاهل المواطنين، والفلاحين الفقراء بصفةٍ خاصّة، بالضرائب ممّا نتج عنها انتفاضات عديدة كالتي قادها علي بن غذاهم، الذي طالب بإلغاء دستور 1861، وصولًا إلى إقرار الكوميسيون المالي (1869) الذي أفقد البلاد سيادتها المالية وأفلسها ومهّد الطريق أمام القوى الغربية للسيطرة عليها.

أثارت القضايا الدينية نقاشات واسعة وتجاذبات حادة وانتهت بتوافق جميع الأطراف على إقرار دستور 2014

بالنتيجة، فشل المشروع الإصلاحي لاعتباراتٍ عدّةٍ منها، خصوصًا أنّ تلك الدساتير (بخاصّة الأول والثاني) لم تكن ثمرة تطوّر داخلي للمجتمع التونسي، بل كانت نتيجةً للضغوط السياسية والعسكرية التي مارستها القوى الاستعمارية على البلاد وصولًا إلى احتلالها من قبل فرنسا في 1881. وعلى الرَّغم من ذلك، مثّل بعض مضامين تلك الدساتير - والحركة الإصلاحية وإنجازاتها - أرضيةً أولى للحركة الوطنية التي طالبت ببرلمان ودستور تونسيَيْن، وكان من بين أهم الإجراءات التي اتخذها المجلس التأسيسي بعد استقلال البلاد، إصدار دستور 1959 الذي حدّد في فصله الأول أنّ الإسلام دين الدولة، والعربية لغتها، الأمر الذي يؤكّد على المكانة المتميّزة للإسلام في النظام السياسي والاجتماعي، لكن من دون أن ينفيَ صراحةً وجود ديانات أخرى أو الحقّ في ممارستها. في الوقت الذي أكد على بُعدَيْن أساسيَيْن للحريّة الدينية؛ أولهما فردي يقوم على حريّة المعتقد، وثانيهما جماعي - اجتماعي يقوم على حريّة القيام بالشعائر، من قبيل حرمة الفرد وحريّة المُعتقد وحماية حريّة القيام بالشعائر الدينية، ما لم تُخِلّ بالنظام العام، حسب مقتضى الفصل الخامس منه.

أمّا دستور 2014، فجاء في ظرفيّةٍ مختلفةٍ تمامًا عن ظروف صياغة بقية الدساتير، إذ شاركت في صياغته مجموعة هامّة من الأحزاب السياسية (بخاصّة حزب النهضة ذو المرجعية الإسلامية) وقد تميّز بنقاشات واسعة داخل البرلمان وخارجه. وأثارت القضايا الدينية نقاشات واسعة وتجاذبات حادة وانتهت بتوافق جميع الأطراف على إقراره ومنها الفصول ذات العلاقة بمسألة الحريّة الدينية التي حازت على أكثر من فصل لعلّ أهمها الفصل السادس الذي أكّد على أنّ: "الدّولة راعية للدّين، كافلةً لحريّة المعتقد والضّمير وممارسة الشّعائر الدّينيّة، ضامنةً لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. وتلتزم الدّولة بنشر قيم الاعتدال والتّسامح وبحماية المقدّسات ومنع النّيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التّكفير والتّحريض على الكراهية والعنف وبالتّصدّي لها".

تناول الحريّات في الدساتير التونسية ذو فرادة في سياقه الزمني والإقليمي من حيث ضمان الحريات الدينية

أمّا دستور 2022 فيُوصف بأنّه دستور شخصي صاغه الرئيس المنتخب (2019) بنفسِه، وإن حافظ بدوره على ضمان الدولة، وجاء فيه التنصيص على "حريّة المعتقد وحريّة الضّمير (الفصل 27)"، و"حماية حريّة القيام بالشّعائر الدينية ما لم تُخِلّ بالأمن العام". كما أكّد في الفصل الخامس على أنّ "تونس جزء من الأمة الإسلاميّة، وعلى الدّولة وحدها أن تعمل في ظلّ نظام ديمقراطيّ، على تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الحفاظ على النّفس والعرض، والمال، والدّين والحريّة".

بالنتيجة، يمكن اعتبار تناول مسألة الحريّات في الدساتير التونسية متقدّمًا وذا فرادةٍ في سياقه الزمني والإقليمي من حيث ضمان الحريات الدينية، سواء من حيث التأكيد على حريّة المُعتقد، أو حريّة الضمير مع الإقرار بمحافظتها على الهويّة الإسلامية للدولة التونسية ما ينفي عنها صفة الدولة "العلمانية". ومع ذلك واجهت وتواجه تلك الفصول احترازات ومعارضة من قِبَلِ جزءٍ من المجتمع في الوقت الذي لا تمنع فيه بعض فصول الدستور من التدخّلات الرسمية "القانونية" لتعطيلها عندما ترى ضرورةً لذلك.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن