صحافة

إيران وإسرائيل: الانتصار أو تجرع كأس السم

أحمد محمود عجاج

المشاركة
إيران وإسرائيل: الانتصار أو تجرع كأس السم

الفكرة السائدة في كل الأنظمة الآيديولوجية أن العدو متحفز لتدمير الثورة، وعلى الجماهير والقيادة الاستعداد للمنازلة الفاصلة. بهذه القناعة انحرف لينين عن فكر كارل ماركس ولم يعطِ للجماهير فرصة التعبير الديمقراطي لكون الأعداء يحيطون بالثورة، والجماهير ليست جاهزة، ولا بد من تسليم السلطة المطلقة، مؤقتاً، للحزب القائد لتحقيق الانتصار.

وبالمثل أعطت الثورة الإيرانية القرار الفصل للخميني، لتختزل بشخصه كل العملية الديمقراطية؛ وكما كانت الرأسمالية العدو اللدود للاتحاد السوفياتي، كذلك أميركا وإسرائيل هما العدوان للثورة الإسلامية؛ وكما تقاتَل الروس والأميركيون على أراضي الآخرين، ولم يدخلا في معركة مباشرة، كذلك تحاشى الإيرانيون المواجهة الكبرى مع أميركا وإسرائيل وتقاتلا على أرض الآخرين، للقناعة أن أي مواجهة ستكون كارثية؛ لذلك تراجع خروتشوف وكنيدي في أزمة صواريخ كوبا لئلا يتقاتلا بالنووي.

اليوم، تعيش إيران وإسرائيل لحظة مشابهة: تجاوزت إسرائيل الخط الأحمر، وضربت مواقع نووية إيرانية، وقتلت قادة عسكريين كباراً، وعلماء ذرة، وجاهرت بنية إسقاط النظام الإيراني؛ وهذه بالذات كفيلة بتفعيل الزخم الثوري الإيراني، وإثارة العصب القومي، والتأجيج الديني، لمواجهة إسرائيل. ويقابل ذلك زخم إسرائيل المشبع قومياً ودينياً، بأن المعركة معركة وجود؛ وهكذا يخوض الطرفان معركة "أم المعارك" إنما بفوارق واستعدادات متفاوتة. قبل المعركة اختارت إسرائيل أسلوب الرئيس الصيني الأسبق: "اعمل بجهد، وخبئ إنجازاتك، وانتظر الفرصة السانحة"، واختارت إيران أسلوب عبد الناصر: "استعرض صواريخك، وارفع تخصيبك لليورانيوم، وهدّدْ بإزالة إسرائيل، واطرد أميركا من المنطقة".

كما استحدثت إيران نظرية "الدفاع المتقدم" بنشر آيديولوجيتها الدينية، وتشكيل ميليشيات تابعة لها في الأوطان المجاورة لتكون زناراً يحميها من نار الأعداء المتربصين؛ وبينما جهدت إيران باستعداء شعوب المنطقة، والتباهي باحتلال عواصمها، وعقد صفقات مع الشيطان الأكبر (أميركا) في العراق وأفغانستان، ومع أنظمة قمع وحشية، كانت تراقب إسرائيل تحركاتها، وترسم الخطط، وتستفيد من أخطائها، وتنتظر الفرصة السانحة.

ثم جاء حدث 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فأخرجت إسرائيل خططها من الجارور، وبدأت بتقطيع أذرع إيران واحدة تلو الأخرى، وخسرت بذلك إيران كل استثماراتها في المنطقة وبالذات "حزب الله" والنظام السوري؛ وبهذه الخسارة فقدت زنار النار، وأصبحت على تماس مباشر مع إسرائيل التي تذرعت بقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير لتصل إلى قلب طهران ومدن إيرانية مُشعلة فيها النار والتدمير، وردت إيران بصواريخ ومسيَّرات ضربت مدن إسرائيل. هذه المعركة التي تشبه حرب المدن أيام صدام حسين يبقى أفقها مائلاً لصالح إسرائيل لثلاثة عوامل رئيسة: الواقع الجيوسياسي، والتحالفات، وموازين القوة.

الواقع الجيوسياسي تغير بعد خسارة إيران عواصم عربية، وانهزام ميليشياتها، وظهور تيار شعبي عربي، مستعد، بعد انزياح النفوذ الإيراني ومرارة الحصاد، للتعايش مع إسرائيل بشرط قبولها دولة فلسطينية. أما التحالفات، فتبدت بوقوف الغرب مع إسرائيل لتكون قوة ضاربة في المنطقة لصالحه، وبقاء روسيا والصين عملياً على الحياد. والأهم أن دول المنطقة المستنزفة لا ترغب في مواجهات، بل عقد بعضها شراكات مع إسرائيل، للقناعة بأنها أمر واقع إقليمي ودولي.

بالمقابل، تعادي إيران أميركا، وأغضبت أوروبا بدعمها روسيا بالمسيَّرات في حربها مع أوكرانيا، وإصرارها على التخصيب النووي، وتصدير الآيديولوجيا الثورية، لم تكسب حلفاء، بل خسرت متعاطفين معها. أما موازين القوى، فواضحة تقنياً ومخابراتياً وشاهدنا فاعليتها في حرب الأذرع الإيرانية، ونشاهدها اليوم في الضربة الاستباقية لإيران؛ كل ما تملكه إيران هو صواريخ ومسيَّرات، بينما طائرات إسرائيل بالمقابل تتبختر في سماء طهران وتفعل ما تفعل.

في هذه الحرب ليس أمام إيران سوى خيار الانتصار أو الاستسلام، وليس أمام إسرائيل سوى الانتصار؛ لأن البديل كارثي جداً، ولذلك فإن التصعيد المتبادل للتسيّد (escalation dominance) سيحكم المواجهة والمنتصر فيها هو الذي يملك الحلفاء والتفوق التكنولوجي والصبر الاستراتيجي؛ إيران تتفوق فقط بالصبر الاستراتيجي وتفتقد إلى التفوق التكنولوجي والحلفاء؛ ولذلك سمعنا الرئيس الأميركي دونالد ترمب يقول: "على إيران أن تأتي إلينا وتعقد صفقة، قبل أن تخسر ما يعرف بالإمبراطورية الإيرانية". هذا التصريح ينطوي على حقيقتين: أولاً، تملك إسرائيل في نهاية المطاف سلاحاً فتاكاً (النووي)، ويمكنها الاعتماد على حلفائها للتدخل مباشرة أو تزويدها بما تحتاج إليه. والحقيقة الأخرى أن تهديد القيادة الإيرانية بضرب من يساعد إسرائيل معناه جر أميركا وأوروبا للحرب ضدها؛ ما سيضاعف خسارتها وربما يُسرّع سقوط نظامها.

في هذه الحرب ستتجرع إسرائيل كثيراً من الآلام؛ لأن خياراتها وجودية، بينما إيران، كما في حرب السنوات الثماني مع العراق، خسارتها مرحلية، وقادرة عند ارتفاع التكاليف أن تستلهم فتوى الإمام الخميني: "نتجرع كأس السم إن اضطررنا لكي نحمي الثورة الإسلامية من الأعداء".

(الشرق الأوسط)

يتم التصفح الآن