الأمن الغذائي والمائي

مقوّمات حروب المياه بين مصر وإثيوبيا!

تنفيذًا للمقولة الأميركية التي أُطلقت عام 1959 عقب الاختلاف مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر وقتها، بسبب إصراره على بناء "السدّ العالي" بعيدًا عن هيمنة الأميركيين الذين أطلقوا تصريحاتٍ بأنّ "من يريد أن يسيطر على مصر ومقدراتها فعليه أن يسيطر على النّيل الأزرق الشريان الرئيسي لنهر النيل"، والذي يساهم في تدفّقات مياه النهر بنحو 59% إلى 64% بحجم مياه يبلغ 48.85 مليار مترٍ مكعبٍ سنويًا قبل أن ينضمّ إليه رافدا "الرهد" و"الدندر" داخل الحدود السودانية قادمَيْن من إثيوبيا أيضًا ليصل إجمالي التصرّف إلى 54 مليار مترٍ مكعبٍ سنويًا ويصبّ في النيل الموحّد الذي يلتقي بالنيل الأبيض القادم من الجنوب من منابع البحيرات الاستوائية العظمى ليرسما معًا الشكل المثلّث للعاصمة السودانية التي اكتسبت اسمها بالعاصمة المثلّثة من هذا التلاقي للنّهرين.

مقوّمات حروب المياه بين مصر وإثيوبيا!

هناك أيضًا رافدا "عطبرة" الذي يأتي من شمال إثيوبيا ويرسم جزءًا من حدودها مع إريتريا ليصب في نهر النيل شمال مدينة الخرطوم بنحو 330 كيلومترًا في الاتجاه إلى دولة المصبّ مصر. كما يأتي من الجنوب الإثيوبي نهر "السوبات" بروافده العديدة والذي يتجه جنوبًا ليصبَّ في النيل الأبيض عند مدينة ملكال بالقرب من حدود دولتَيْ السودان الجنوبي والشمالي ليعطي دفعة أو قبلة الحياة للنيل الأبيض البطيء ويأخذ بيده معطيًا إياه قوةً دافعةً للتحرّك شمالًا، حيث يمثل الرافدان "عطبرة" و"السوباط" معًا نحو 22% من إجمالي تصرّفات (انسياب أو جريان أو تدفّق) نهر النيل لتصل النسبة إلى ما بين 85 و86% من حصّة مياه النهر البالغة 84 مليار مترٍ مكعّبٍ سنويّا. باقي النسبة من 14% إلى 15% تأتي من دول البحيرات الاستوائية الستّ وهي من الشرق إلى الغرب كينيا وتنزانيا وأوغندا وبوروندي ورواندا والكونغو الديموقراطية عبر البحيرات الرئيسية فيكتوريا وكيوغا وألبرت وإدوارد وجورج وكيفو وبعض البحيرات الصغيرة الأخرى.

إثيوبيا بدأت منذ السبعينيّات في إثارة القلاقل بسبب رغبتها في إضعاف مصر

تعيش مناطق الشرق الأوسط وشرق وغرب وجنوب ووسط القارة الأفريقية حالةً من التوتّر بسبب التنافس للحصول على المياه وتحقيق أقصى استفادة منها، سواء في إسرائيل ومحاولتها السيطرة والاستئثار بمياه أنهار الجنوب اللبناني العاصي والليطاني والكبير، ونهر الأردن وبحيرة طبريّة أو بسبب إثيوبيا نافورة المياه في أفريقيا والتي لا يكفيها تسعة من أحواض الأنهار والتي تربطها بكينيا والصومال وجيبوتي، ثمّ أخيرًا بنهر النيل، ولكنها ترغب في الاستئثار بمياه أنهار النيل الثلاثة الرئيسية التي تنبع من أراضيها وتساهم بنسبة 85% من كامل مياه نهر النيل بحصةٍ مقدارها 72 مليار مترٍ مكعبٍ كل سنة، إذ تقدّر تصرّفات النهر بحجم المياه التي تصل إلى دولة المصبّ للنهر.

حالة التوتّر هذه قد تؤدي إلى اندلاع صراعات قد تتطوّر إلى حروبٍ في المنطقة تنبَّأ بها الرئيس المصري أنور السادات عام 1979 ثم وزير خارجيته الذي أصبح لاحقًا الأمين العام للأمم المتحدة بطرس غالي، عندما ذكرا أنّ الحرب المقبلة في المنطقة لن تكون حربًا للحدود أو بسبب الأزمات السياسية، ولكنّها ستكون حربًا بسبب المياه. الحديث هنا واضح وجليّ وموجّه إلى إثيوبيا بشكلٍ خاصّ والتي بدأت منذ السبعينيّات في إثارة القلاقل مع مصر بسبب رغبتها في إضعاف مصر وإبعادها عن قمّة القوى الكبرى في القارة الأفريقية ظنًّا منها بإمكانية تبوء المكانة المصرية بمساعدة من الغرب، والتي استجابت لأوامرهم في السيطرة على الصومال وإنجاز انفصال الجنوب السوداني عن شماله وإضعاف كينيا بمنع مياه نهر "أومو" عنها، ثم اتّجهت إلى مياه نهر النيل للاعتماد عليها مُنْقِصَةً من حصتَيْ مصر والسودان.

الأطماع الإثيوبية ترى أنّ حدود إثيوبيا تمتدّ حتى الخرطوم

وقد أثمرت هذه الصراعات والحروب في عصر محمد علي مع إثيوبيا ومؤامرة اغتيال ابن محمد علي قائد الجيوش المصرية في السودان وهروب قاتله إلى الأراضي الإثيوبية ورفض إثيوبيا تسليمه لمصر، بل وتزويجه من ابنة ملك إثيوبيا ليصبح من الأسرة الحاكمة، ثم التعهّد الإثيوبي بالاعتراف بالحدود السودانية الحالية وعدم التعدّي عليها باستثناء الخلاف على منطقتَي القضارف والشفق الحدوديتَيْن اللتَيْن ما زالتا تحت السيطرة الإثيوبية وترفض عودتهما للسودان.

ومن أهم مقوّمات حروب المياه ندرة المياه والزيادة السكانية والحاجة إلى إنتاج المزيد من الغذاء أو توليد الكهرباء ثم الشعور بسيطرة أو استفادة إحدى دول النهر بقدر أكبر من مياهه عن باقي الدول، والاختلاف بين الدول في تفسير عبارة موارد النهر؛ وهل تقتصر فقط على المياه الجارية بين ضفّتي النهر فقط، أم تشمل كلّ موارد النهر ومناطق تجمعات المياه والأمطار والمياه الجوفية، وإصرار البعض على استبعاد هذه الموارد والتمسّك فقط بتقسيم مياه النهر نفسه، على الرَّغم من أنّ مجرى النهر مثلًا في حالة نهر النيل يستقبل فقط 3.9% من موارده المائية وأمطاره والباقي يُفقد عبر المستنقعات أو يُستفاد منه في الزراعة المطريّة والعضوية. فمن إجمالي 1977 مليار مترٍ مكعبٍ أمطار تسقط على دول المنابع لا يصل منها للنهر إلّا 84 مليارًا فقط!

الصراع المصري - الإثيوبي سيستمرّ طويلًا لأنه يرتبط بالعقيدة بأنّ النيل نهر إثيوبي وليس نهرًا دوليًا عابرًا للحدود

هناك أيضًا الحاجة إلى التنمية الاقتصادية والصناعية ثم العلاقات غير الحميميّة بين الدول المُتشاطئة على النهر نفسه والصراعات السياسية والرغبة في السيطرة الإقليمية أو القارية، وأيضًا الصراعات السياسية والعسكرية بين دول بعينها، مثلما هو الحال بين مصر وإثيوبيا والتي استمرّت طوال فترة حكم محمد علي 1805 - 1845، ومحاولة مصر الحفاظ على دولة السودان التي استجارت بها ضدّ الأطماع الإثيوبية التي ترى أنّ حدود إثيوبيا تمتدّ حتى العاصمة السودانية الخرطوم ثم شمالًا حتى التقاء نهر عطبرة في النيل الموحّد على بعد نحو 330 كيلومترًا شمال مدينة الخرطوم، وبعدها تبدأ حدود مصر، لرغبة إثيوبيا في وجود حدودٍ مباشرةٍ لها مع مصر وإلغاء تام لوجود دولة السودان، واقتصارها على مملكة دارفور فقط والتي أخضعها الوالي المصري محمد علي لحكم السودان بعد أن كانت مملكةً مستقلةً لمئات السنين.

ترفع إثيوبيا شعارًا ضدّ مصر وهو "لماذا تقدّمتم ولماذا تأخّرنا؟!" تقدّمتم لأننا نترك لكم مياه نهر النيل التي تنبع من أراضينا، وتأخّرنا لأننا فرّطنا لكم في هذه المياه وكأنّ الإثيوبيين يستمطرون السحاب وكأنّ مصر شقّت مجرى النهر إلى أراضيها وليس كونه موردًا طبيعيًا خُلق ليجري في مسارٍ تحكمه الطبيعة والانحدار. وقد وصل الأمر بإثيوبيا بأن تدّعي أنّ مصر ليست هبة النيل كما قال المؤرّخ اليوناني هيرودوت ولكنّها هبة إثيوبيا! ولكلّ هذه الأمور فإنّ الصراع المصري - الإثيوبي سيستمرّ طويلًا لأنه يرتبط بالعقيدة بأنه نهر إثيوبي وليس نهرًا دوليًا عابرًا للحدود رسمت الطبيعة والخلق مساره.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن