يُعتقد أنّ عدم تمكّن الروس من تحييد الدفاعات الجوية لأوكرانيا يعود إلى تجنّب الأخيرة تشغيل راداراتها حتى لا تكشفها المقاتلات الروسية، ثم تتلقّى مساعدة طائرات "الأواكس" الغربية لاستهداف المقاتلات الروسية.
وتاريخيًّا، تنبّه الروس لتفوّق الأميركيين في مجال طائرات "الأواكس" والحرب الإلكترونية، ولذلك صنعوا مقاتلاتٍ عملاقةً لإسقاطها وآخرها المقاتلة الأسرع في العالم "ميغ 31"، ولكن بما أنّ طائرات "الأواكس" الأميركية تحلّق خارج أجواء أوكرانيا، وواشنطن ليست طرفًا رسميًا بالحرب، فإنّ موسكو لا تستطيع إسقاطها.
تكنولوجيا الاتصالات بمثابة النّواة الصلبة لاقتصاد أميركا تمنحها التفوّق العسكري والقدرة على اختراق البنى التحتية العالمية
في المقابل، فإنّ هيمنة إسرائيل على الأجواء الإيرانية تحقّقت بفعل ضعف القوات الجوّية والدفاعات الجوّية الإيرانية والعملية الاستخباراتية التي استهدفت أنظمة الدفاع الإيرانية من مُسيّرات أطلقت من داخل البلاد، ولكن هذه الهيمنة تحقّقت أيضًا نتيجة تكنولوجيا الاختراق والتشويش حيث يُعتقد أنّ إسرائيل دمّرت في أكتوبر/تشرين الأول 2024 معظم أنظمة الدفاع الجوي "إس 300" الإيرانية (روسية الصنع) بعدما اخترقتها بـ"هجماتٍ إلكترونية". كما أنّ الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي لإيران تمّ عبر تجنيد شبكاتٍ واسعةٍ من العملاء، ولكنّه على الأرجح جرى أيضًا عبر تجسّسٍ إلكترونيّ مدعومٍ أميركيًّا على الاتصالات الإيرانية.
إضافةً إلى ذلك، فإنّ تمكن إسرائيل من قصف منصّات الصواريخ أرض/أرض الإيرانية مقارنةً بتعثّر الروس في ذلك بأوكرانيا، نابع في الأغلب من استفادتها من الأقمار الاصطناعية الأميركية ودقّة أنظمة الرّصد والتصويب الأميركية الصنع التي مُنحت لإسرائيل أو طوّرتها بدعمٍ أميركي.
إنّ تفوّق أميركا (ومن ورائها إسرائيل) على خصومها في الاتصالات العسكرية، ناتجٌ عن عوامل عدّة منها الإنفاق الضخم، ولكن أيضًا لأنّ هذه التكنولوجيا هي بالأصل اختراع أميركي، حتّى أنّ الاتحاد السوفياتي في ذروة تقدّمه كان يحقّق اختراقاتٍ في هذه التكنولوجيا عبر التجسّس على أميركا.
كما أنّ تكنولوجيا الاتصالات بالنسبة إلى موسكو السوفياتية والبوتينية تُعدُّ جانبًا مُهمًّا للقوّة العسكرية خصّصت لها استثمارات ضخمة، ولكن بالنّسبة إلى واشنطن فإنّها قلب حضارة أميركا الحديثة والشغل الشاغل لنُخبها من الأكاديميين وصناديق الاستثمار التي موّلت مبكّرًا شركات التكنولوجيا عندما كانت ناشئة، إلى النشطاء ومدمني الإنترنت والقراصنة وحتّى المهووسين بأفكار نهاية العالم.
فالولايات المتحدة اليوم ليست أكبر مُنتجٍ للسيارات أو السفن أو الصّلب أو حتى المفاعلات النووية، ولكنّها زعيمة صناعة تكنولوجيا الاتصالات وتقود الابتكارات فيها تاركةً لحلفائها صناعة الأجزاء الأقلّ ربحيةً مثل الرقائق الإلكترونية التي تتركّز في تايوان وكوريا الجنوبية تحت الرّقابة الأميركية.
ركّزت إسرائيل على الاستثمار في أنظمة التجسّس والأمن السيبراني والرادارات وتقنيات الاتصالات ذات الاستخدام المزدوج
وهذه المنظومة بمثابة النّواة الصلبة لاقتصاد أميركا، كما تمنحها التفوّق العسكري وإمكانيّة التأثير في الرأي العام العالمي عبر مواقع التواصل المملوكة لعمالقة التكنولوجيا الأميركيين والقدرة على اختراق شبكات المصارف والبنى التحتية المدنية والعسكرية العالمية.
لقد وَعَت إسرائيل لأهمّية هذه التكنولوجيا منذ عقود، خصوصًا في ظل ضعفها السكاني والجغرافي، وركّزت على الاستثمار في أنظمة التجسّس والأمن السيبراني والرادارات وغيرها من تقنيات الاتصالات ذات الاستخدام المزدوج.
وقد تكون المفارقة أنّ استمرار مقاومة "حماس" حتى الآن لإسرائيل في حرب غزّة يعود لأنّها كانت منكشفةً أمام تطوّرها التكنولوجي لعقود، ممّا جعلها تعتبر الهواتف المحمولة "رجسًا من عمل الشيطان" وتجنّبته أجنحتها العسكرية، وهو ما مكّنها من إبقاء الأسرى الإسرائيليين في غزّة بعيدًا عن أعين إسرائيل.
الصين منافس أميركا الوحيد
إنّ الدولة الرئيسيّة التي حققت خرقًا بمواجهة الهيمنة الأميركية على تكنولوجيا الاتصالات هي الصين، وهو ما يظهر في منافسة تطبيقات "تيك توك" و"ديب سيك" للتطبيقات الأميركية.
أدركت بكين مُبكرًا أهمية تكنولوجيا الاتصالات، عسكريًا واقتصاديًا، واتّبعت مقاربةً مماثلةً للمقاربة الأميركية إن لم تكن أكثر حنكة.
بناء بكين لشبكات تواصل اجتماعيّ وطنية أضعف قدرة واشنطن على التأثير في جمهورها وقلّل انكشافها المعلوماتي
فلم تكتفِ الصين باعتبار تكنولوجيا الاتصالات جانبًا مهمًّا لقوّتها العسكرية، بل جعلتها قاطرة تقدّمها الاقتصادي والعلمي، وأغرت الشركات الغربية بتصنيع الأجهزة الإلكترونية عندها للاستفادة من رخص الأيدي العاملة والسوق الواسعة، ثم اقتبست التقنيات منها مُسلّحةً بالتدريب والتعليم لعنصرها البشري واستثمارات هائلة في الجامعات ومراكز الأبحاث، إضافة إلى التجسّس الإلكتروني.
ونجحت هذه المقاربة نتيجة عنصرية الغرب التي جعلته يُقلّل من قدرة الصينيين، معتقدًا أنّهم سيظلّون عالقين في مرحلة التقليد الرديء لمنتجاته.
ويُعتقد أنّ بكين دمجت تكنولوجيا الاتصالات المدنية في الجوانب العسكرية بشكلٍ أكفأ من أميركا بفضل صرامة نظامها السياسي ودور الجيش المركزي في البلاد.
كما أنّ بناء بكين لشبكات تواصلٍ اجتماعيّ وطنية، بعيدًا عن الشركات الأميركية، أضعف قدرة واشنطن على التأثير في جمهورها المحلّي وقلّل انكشافها المعلوماتي النّاجم عن سيل البيانات المارّ بهذه الشبكات.
وزاد من فعالية النموذج الصيني الطبيعة المحافظة للشعوب الآسيوية والتزامهم بأوامر الحكومات وصرامة النظام الأمني الصيني، مقارنةً بالطابع الأقل تحفّظًا للإيرانيين (على الرَّغم من القمع الداخلي والطبع الحذر)، كما أنّ المجتمع الروسي أصبح أقل حذرًا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي (هناك تقارير عن استهداف الأوكرانيين لضباط روس بسبب عدم الالتزام بأوامر حظر الهواتف المحمولة).
لم تُضاهِ الصين بعد التفوّق التكنولوجي الأميركي، ولكنّها اقتربت منه. كما أنّ المفارقة أنّها حققت مقاربةً أكثر شموليةً من واشنطن لأنها تُنتج مروحةً أوسع من أجزاء سلسلة التوريد التكنولوجية، إذ تُنتج أميركا الأجزاء الأكثر تعقيدًا من السلسلة تاركةً لبكين ودول أخرى بقية الأجزاء. في المقابل، تُنتج الصين معظم السلسلة، ولكن تواجه صعوبةً بالأجزاء الأكثر تعقيدًا مثل رقائق شركة "إنفيديا" الأميركية المُستخدمة بالذّكاء الاصطناعي. كما بدأت تصنع مُنتجاتٍ أقل كفاءةً من بعض التقنيات المهمّة كبدائل للحظر الأميركي، أي أنّها أوشكت على استكمال السلسلة ولديها فقط بعض الفجوات التي تفاجئ الغرب كلّ يوم بتغطيتها.
تحتاج كتل العالم غير الغربية للاستثمار في تكنولوجيا الاتصالات والصين الوحيدة القادرة على تقديم بديل للتكنولوجيا الأميركية
ونتيجةً لذلك، يعتقد خبراء غربيّون أنّ الأسلحة الصينية باتت أكثر تطورًا ولو في بعض النواحي، من نظيراتها الروسية وتقترب من الغربية، بخاصة في رادارات الطائرات ودقّة الاستهداف، يدعمها نظام "بايدو" الصيني للتعرّف إلى المواقع عبر الأقمار الصناعية المُنافس لـ"GPS" الأميركي، ويُعتقد أنّه أقوى من "غلوناس" الروسي الذي انتُقد أداؤه في حرب أوكرانيا.
وبالفعل، أظهر إسقاط باكستان لمقاتلاتٍ هنديةٍ غربيةٍ وروسية الصّنع بصواريخ ومقاتلات صينية، فعّالية تكنولوجيا بكين العسكرية.
إنّ تكنولوجيا الاتصالات هي "مربط الفرس" في المعارك التجارية والعسكرية الحديثة، وتحتاج كتل العالم غير الغربية إلى الاستثمار بكثافةٍ فيها، وكذلك النظر في الهيمنة الأميركية على الإنترنت والاقتراب من الصين باعتبارها الوحيدة القادرة على تقديم بديل للتكنولوجيا الأميركية حتّى ولو أقلّ كفاءة.
(خاص "عروبة 22")