شهدنا في الحرب الإيرانية الأخيرة ضدّ إسرائيل تقارير عن اختراقاتٍ أمنيةٍ وتسريباتٍ أو تعطيلٍ في أداء بعض الوحدات. بعض هذه الحالات وُصفت بأنّها خيانات داخلية، لكن إن ثبت ارتباطها بقوى أجنبية مُعادية، فإنّها ترقى إلى عمالةٍ مكتملةٍ تتجاوز الانشقاق السياسي أو التعبير عن السخط، نحو تفكيكِ الجبهةِ من الداخل. مهما بلغ التوتّر داخل النظام الإيراني، فإنّ التعاون مع العدوّ الذي يستهدف المدنيين والبنية الوطنية هو سقوطٌ أخلاقيّ كامل.
العدو الذي يحتلّ الأرض ويقتل الأبرياء لا يمكن أن يصبح حليفًا لأي طرف يدّعي الوطنية
يحدث الأمر نفسه في بعض مظاهر الانهيار داخل "حزب الله"، الذي على الرَّغم من شعارات المقاومة، أظهر ارتباكًا داخليًا وتبايناتٍ حادةً في المواجهة الأخيرة مع إسرائيل. بعض التصدّعات قد تُفهم كأزمةٍ سياسيةٍ أو كتآكلٍ في الإجماع، لكن حين تتجاوز إلى تسريب معلومات أو تسهيل استهدافات للعدو، فإنّها تنتمي إلى منطق العمالة لا النّقد.
في السّياق العربي الأوسع، أصبحت العمالة أداةً بنيويةً في ممارسة السلطة. الكثير من الأنظمة العربية، في السرّ أو في العلن، أقامت علاقاتٍ أمنيةً وسياسيةً مع إسرائيل، وَسَعَت إلى تصفية القضية الفلسطينية من داخل النّظام الرسمي. هذه العمالة لا يرتكبها أفراد ضدّ النظام، بل تمارسها الأنظمة ضدّ شعوبها وتاريخها ومصيرها المشترك.
يبرز الفارق الجوهري بين المعارضة والعمالة: المعارضة تنتقد النظام باسم الوطن، بينما العمالة تخون الوطن باسم إسقاط النظام. لا توجد سلطة مهما بلغ طغيانها تبرّر الارتباط بمشروعٍ عدوانيّ خارجيّ. فالعدو الذي يحتلّ الأرض ويقتل الأبرياء لا يمكن أن يصبح حليفًا لأي طرف يدّعي الوطنية.
إذا كانت الخيانة إخلالًا بالعقد التاريخي والوجداني للجماعة، فالعمالة هي هدمٌ لهذا العقد من جذوره واستبداله بعقدٍ مع العدو، ما يشير إلى تراجيديا أخلاقيّة مُروّعة.
إنّ تبرير العمالة بدعوى اليأس أو القمع هو تزييف أخلاقي يُساوي بين ضحية الداخل وعدو الخارج.
قد تتسلّل العمالة تحت غطاء "الواقعية" أو "السلام"
أخطر ما في العمالة أنّها لا تستهدف أمن الدولة فقط، بل تقوّض المعنى الذي يُبقي الجماعة متماسكةً في وجه التهديد الخارجي. فالعميل لا يخون القانون فقط، بل يقطع صلته بـ"نحن" الرمزية ويُعيد تموضعه داخل سرديّة العدو، ليصبح تهديدًا وجوديًا لا سياسيًا فحسب.
في لحظات التحوّل، قد تتسلّل العمالة تحت غطاء "الواقعية" أو "السلام"، لكنّها في جوهرها إعادة هندسةٍ للهويات الجمعية تُفرغ المقاومة من معناها. الدفاع عن المقاومة لا يعني حمل السلاح فقط، بل الدفاع عن الحقّ في الانتماء والمعنى والذاكرة الجمعية والوجدان المشترك، ورفض تحويل الخيانة إلى خيارٍ سياسيّ مشروع.
حين تصبح العمالة رأيًا مقبولًا، والمقاومة تهمةً، نكون أمام لحظةٍ تاريخيةٍ يُعاد فيها ترتيب الأخلاق والانتماء وِفق معايير القوّة لا الحقّ.
مهما بلغ الصراع الداخلي من حِدّة، لا يُعتبر التعاون مع العدو موقفًا نقديًا، بل يجسد انهيارًا في فكرةِ الجماعةِ ذاتِها وفي المعنى الإنساني للقيم.