سيطول الوقت حتّى نحصرها كاملةً، ونتعرّف إلى حجمها الذي لا شكّ أنّه يقارب الخيال. وعلى الرَّغم من قسوة تلك الأوصاف، وهذا ما يجعلني أتجنّب إيرادها، فإنّ التدقيق في أمر إطلاقها، يؤشّر، بل يؤكد استسهال وصفِ سوريين بها، ويُبيِّن وكأنّ ثمّة منافسةً بين المتحدّثين على استعمالها، والتفنّن في تقليبها وتوليد أصنافٍ جديدةٍ من الأوصاف المتداولة، لأخذ مكانةٍ مميّزةٍ، متجاهلين أو غير عارفين أنّها جريمة يحاسب عليها القانون، إذا صارت أمام القضاء لأنها في أحد وجوهِها تُهين وتُشيْطن الأشخاص، وقد تدفع لارتكاب جرائم لاحقةٍ ضدّهم، وكلّها تدفع الآخرين ممن يتلقّون تلك الأوصاف (إن لم يكونوا أصلًا من المُبادرين) إلى الردّ، مما يشعل حربًا لا رابحين فيها، إنّما الكل خاسرٌ، وسوريا أكبر الخاسرين.
مسار العدالة الانتقالية يبدو مؤجّلًا أو موضوعًا على نار هادئة
إنّ الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك إزاء بعض السوريين من أشخاصٍ ورموزٍ في مكوّنات الجماعة الوطنية، تكون غالبًا ناتجةً عن أسبابٍ متعدّدةٍ، ولعلّ الأهم فيها اثنان:
السبب الأول؛ تنامي بعض مظاهر العنصرية والكراهية نتيجة الإحساس بالظلم، ممّا أصاب غالبية السوريين على يد نظام الأسد وأجهزته ومؤيّديه، وهي مظالمٌ ينبغي أن يُعالجها مسار العدالة الانتقالية في ثلاثةٍ من مفاصله: الاقتصاص من مرتكبي الجرائم، وإغلاق ملف المغيّبين وعودة اللاجئين والنازحين، وجبر الضرر والتعويض للخاسرين والضعفاء منهم على الأقل. وللحقّ فإنّ مسار العدالة الانتقالية، يبدو مؤجّلًا أو موضوعًا على نارٍ هادئة.
والسبب الثاني؛ رغبة البعض في لعب دورٍ أكبر في الحياة العامة، ممّا فرض تمايزَ المواقف وخاصة السياسيّة، واختلاف الآراء في الموقف من قضية أو في تفسير ظاهرة، والحديث عن وقائع وأحداث، وكلّها اختلافات في الرأي او في وجهات النّظر، لا تتطلّب ردودًا من الاتهامات والتنمّر، بل إدخالها في مسارات النقاش العام، حسب نصوص الدساتير والقوانين ومبادئ حقوق الإنسان المعمول بها في أغلب دول العالم. وهي في الحالة السورية حقٌ حسب الإعلان الدستوري الجديد، وضروريّةٌ ومُلحّةٌ، لأنها تفتح الأبواب أمام السوريين لمعالجة مشاكلهم وتجاوزها، وتُعيد بناء حياتهم التشاركيّة.
ما كان يجري في ظلّ النظام البائد كان سياسة رسمية مُنظّمة أمّا الذي يحدث حاليًا فهو يخدم أعداء السلطة وخصومها
يُعيدنا واقع الحال إلى سلوكٍ مُقاربٍ، شاع أيام النظام البائد في التعامل مع السوريين ومع نشطاء الثورة بشكلٍ خاصٍّ، حين كان ضبّاط وجنود النظام ومخابراته والشبّيحة، يتشاركون في إطلاق ألفاظ، هدفها إهانة السوريين مثل إرهابيين وسلفيّين ومتطرّفين وخونة وعراعير. وكان استخدام هذه الألفاظ يُمهّد لجرائم تاليةٍ ضدّهم، تبدأ بالاعتقال الذي يمتدّ سنواتٍ طويلةً، ثم التعذيب الذي يأخذ المعتقل إلى الموت تحت التعذيب.
أنْ تُقارِبَ ما يحدث اليوم وما كان يحدث أيام النظام البائد أمرٌ واقع. لكن الأهمّ من المقارنة، تأكيد أنّ ثمّة اختلافاتٍ مهمّةً بين الحالتَيْن. وأبرز الاختلافات في أنّ ما كان يجري في ظلّ النظام البائد، كان تعبيرًا عن سياسةٍ رسميةٍ مُنظّمةٍ، يقوم بها مسؤولون وأعضاءٌ مُنَظّمون في مؤسّساتٍ وأجهزةٍ رسمية، تتمّ ممارستها بصورةٍ مباشرةٍ ضد أفرادٍ ومجموعات، ليس من أجل إذلالهم فقط، بل إثارتهم للردّ بصورةٍ ما، تمهيدًا لاعتقالهم الذي قد لا يكون له مبرّر او سبب كاف. أمّا الذي يحدث حاليًا، فهو خارج موقف السلطة وسياساتها، بل إنّه يخدم سياسات أعدائها وخصومها، وبطبيعة الحال فإنّه يتمّ بعيدًا عنها، حتى وإن ظهر مقرّبون منها في عداد من يقومون بهذه الأفعال. ومن المؤكّد أنّ كل إعلانات السلطة وتصريحات المسؤولين فيها تُعارض تلك الأعمال وتُدينها، لأنّها في جانبٍ مُهمٍ من نتائجها، تضع السلطة والبلاد على قاعدة إثارة القلاقل والفوضى وتصعيد النزاعات الأهلية والسياسية بين مكوّنات الجماعات الوطنية، التي تضع السلطة سياساتها، وتُطلق مبادراتها من أجل تصفية النزاعات وتقوية الوحدة الوطنية.
لوضع استراتيجية شاملة تفتح أبواب التوافقات وتُصدر قوانين تُجرّم كل ما من شأنه إثارة الفرقة والنزاع بين السوريين
إنّ الفارق الأهم في موضوع الحالتَيْن، يكمن في أنّ سلطة العهد الجديد، لا ينبغي أن تتوقّف عند رفض ما يجري من تنمّرٍ وشيطنةٍ لأفرادٍ ومجموعاتٍ من السوريين من أي طرف صدرت، إنّما أن تضع استراتيجيةً شاملةً في هذا المجال، تأخذ كلّ مواطنيها إلى مواقفَ وممارساتٍ أخرى، تعزّز انتماءهم لسوريا والسوريين عبر خطط ومشاريع ثقافية اجتماعية، تُشيع وتُشجّع الحوار في كلّ المواضيع، وتفتح أبواب التوافقات بين الجميع، وتُصدر قوانينَ تُجرِّم كل ما من شأنه إثارة الفرقة والنزاع بين السوريين مثل المواقف والسياسات العنصرية وخطابات الكراهية وممارسة التنمّر وشيطنة الآخر.
إنّ خطةً في هذا الاتجاه، من شأنِها فتح بواباتٍ جديدةٍ في الحياة الوطنية، تجعلها الأفضل بين كل ما عاشته سوريا في عهودٍ سابقة.
(خاص "عروبة 22")