يُجمع الكثير من الخبراء على أنّ العمل العربي المشترك هو السبيل الوحيد، لحماية الفضاء السيبراني العربي، عبر آلياتٍ واضحةٍ للدفاع والردع السيبراني، تقوم على تفعيل الاعتماد الأمني المُتبادل بين الدول العربية لصدّ أي هجماتٍ مُتوقعة، من شأنها أن تحوّل الفضاء السيبراني العربي، إلى ساحةٍ مستباحةٍ للعديد من القوى والمنظّمات الأجنبية المُتخصّصة في الاختراق والتدمير.
تُصنِّف العديد من الأدبيّات السياسيّة والاستراتيجيّة الحديثة، الحروب السيبرانية باعتبارها أحد الروافد الرئيسيّة، لما يُعرف بـ"حرب المعلومات" التي تُمثّل أحد الركائز الأساسية لحروب المستقبل، وهي ذلك النوع من الحروب غير التقليدية التي يتمّ خوضها، حسبما يرى الدكتور عادل عبد الصادق، الخبير في مركز "الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية"، بهدف التشتيت وإثارة الاضطرابات في عملية صناعة القرار لدى الخصوم، عبر اختراق أنظمتهم واستخدام ونقل معلوماتهم، وهو ما يلعب دورًا كبيرًا في حسم مصير العديد من المعارك المستقبلية، التي يكون النصر فيها حليفًا ليس فقط لمن يملك القوّة العسكرية، وإنّما للقادر على شلّ هذه القوة، والتشويش على المعلومات، ولعلّ ذلك يُفسّر إلى حدٍّ كبيرٍ، ما تنفقه العديد من القوى الكبرى حول العالم من أموال، لتحديث قدراتها الدفاعية والهجومية، بهدف مواجهة مخاطِر الحرب السيبرانية، وضخّ مليارات الدولارات لجهة الاستثمار في البنية التحتية المعلوماتيّة وتأمينها، ورفع كفاءة الجاهزية لمواجهة ما يُعرف بسباق التسلّح السيبراني "A Cyber Arms Race" الذي يقوم في جانبٍ كبيرٍ منه، على تحديد ماهية الأسلحة التي يمتلكها الآخرون، وعوامل القدرة السريعة على التدخّل لاحتوائها وربما تحييدها أيضًا.
تدخل عملية بناء القدرات العسكرية، في مجال الأسلحة الإلكترونية، ضمن ترسانةٍ شاملةٍ للدفاع، تُشكّل حسب الكثير من الخبراء العسكريين، إطارًا رادعًا لأي حربٍ استباقيةٍ، وهو ما يتطلّب الحرص دائمًا على امتلاك التّكنولوجيا الحديثة، التي تشمل أنظمة الحماية، وتطوير القدرات الهجومية التي تعمل على تحقيق التفوّق التقني، إلى جانب تطوير القدرة على اختبار مدى الجاهزية لمواجهة الهجمات الإلكترونية. فضلًا عن توفير الميزانيات اللّازمة لتطوير تلك القدرات، وهي ميزانيّات تظلّ الأدنى من حيث التكلفة، إذا ما قورنت بحجم ما يتمّ إنفاقه على الجيوش التقليدية من أسلحةٍ وعتادٍ حربيّ، ولعلّ ذلك يفسّر إلى حدٍّ كبيرٍ لجوء الولايات المتحدة الأميركية إلى تخصيص نحو 11.2 مليار دولار من ميزانيّة الدفاع في عام 2023، والتي قُدّرت بنحو 800 مليار دولار، لما يُعرف بالحماية السيبرانية، وهو ما يجعلها تتصدّر قائمة الدول صاحبة القوة السيبرانية الأكبر، التي تضمّ إلى جانب أميركا، روسيا الاتحادية والصين.
كانت الهيمنة على الفضاء السيبراني هدفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة الأميركية منذ منتصف التسعينيّات، بعد فترةٍ من الكرّ والفرّ استمرّت طوال فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي سابقًا، نجحت خلالها وكالة المخابرات السوفياتية (KGB) في اختراق أنظمة الدفاع للعديد من الدول الغربية، وسرقة معلوماتٍ غايةً في السرّية، قبل أن يتسبّب فيلم سينمائي عُرض مطلع الثمانينيّات، في تغيير النّظرة الأميركية للفضاء السيبراني. ويحكي فيلم "Games WAR" للمُخرج الأميركي - البريطاني جون بادهام، قصة مراهقٍ أميركي، ينجح في اختراق حاسوبٍ عسكريّ للبحث عن لعبةٍ إلكترونية، لكنّه ومن دون قصدٍ يتسبّب في تفعيل الترسانة النووية الأميركية ضدّ الاتحاد السوفياتي، ما يضع العالم على شفا حربٍ نوويةٍ مُدمّرة. وقد سأل الرئيس رونالد ريغان مستشاريه بعدما شاهد الفيلم مع أسرته حينذاك، في إحدى دور العرض السينمائية، حول إمكانيّة أن يؤدّيَ اختراق الأجهزة العسكرية الأميركية إلى مثل تلك النتيجة، فكانت الإجابة صادمة: "نعم وقد تكون النتائج أسوأ ممّا يمكن تصوّره"!.
تتصدّر المملكة العربية السعودية والإمارات والجزائر والأردن، قائمة الدول العربية الأكثر تعرّضًا للهجمات الإلكترونية خلال العقدَيْن الأخيرَيْن. وقد استهدفت الهجمات، حسبما تقول شركة "Positive Technologies" وهي واحدة من كبريات الشركات المتخصّصة في خدمات الأمن السيبراني، محطات الطاقة وعددًا من المنشآت الحيوية والهيئات الحكومية، وعلى رأسها شركة "أرامكو" السعودية، المتخصّصة في مجالات النفط والغاز الطبيعي والبتروكيماويات، التي تعرّضت في أغسطس/آب من العام 2012 إلى واحدةٍ من أكثر الهجمات السيبرانية تعطيلًا وإتلافًا لمقدّرات الشركة، إذ أصاب الفيروس "شمعون" قرابة ثلاثين ألف محطّة عمل، وقضى على الأقراص الصلبة فيها، وعلى كلّ ما احتوته من بياناتٍ للشركة. قبل أن تتعرّض بعدها بأيام شركة "رأس الغار" القطرية لهجومٍ مشابه، تسبّب في مشاكل ضخمة، وهو ما بات يُشير بوضوح، حسبما يقول الدكتور أحمد محي، أستاذ العلوم السياسية في "معهد البحوث والدراسات العربية"، إلى زيادة مساعي الفاعلين الدوليين، في استغلال الفضاء السيبراني العربي، لتحقيق أهدافهم عن طريق الهجمات السيبرانية، خصوصًا في ظلّ غياب آليات الدفاع والردع السيبراني، وغياب الاعتماد الأمني المُتبادل بين الدول العربية في الفضاء السيبراني، وهو غياب يؤهّل بعض الدول العربية لأن تتحوّل إلى مسرحٍ مفتوحٍ للافتراس، بينما باقي الدول العربية تجلس في مقاعد المتفرّجين!.
في سبتمبر/أيلول من عام 2023 أعلنت "جامعة الدول العربية" عن تشكيل أوّل "مجلس وزاري عربي للأمن السيبراني"، بهدف تعزيز التعاون وتوحيد الجهود بين الدول الأعضاء، في مواجهة تحدّيات الأمن السيبراني. وقد عكس القرار حجم الإدراك المُتزايد بين الدول العربية، للحاجة المُلحّة إلى جهدٍ موحّدٍ في هذا المجال الحيوي.
ولعلّ الحاجة تكون مُلحّةً الآن أكثر من أي وقت مضى، لأن يضطلع هذا المجلس بدورٍ فاعلٍ، في دراسة ما سوف تُحدثه الحرب السيبرانية الدائرة بين إيران وإسرائيل، من آثارٍ سلبيةٍ متعدّدة، قد تطال العديد من بلدان العالم العربي، وهو ما بات يفرض على صانع القرار العربي، حسبما يرى الكثير من المراقبين، العمل بالسرعة المطلوبة على تقييم القدرات الإيرانية والإسرائيلية في مجال الحرب السيبرانية، وحصر التهديدات المُحتملة للأمن الإقليمي العربي، إلى جانب بحث فرص التعاون المشترك في إجراءات الدفاع والردع، وهو التعاون الذي يجب أن يشمل العمل على تطوير البنية التحتية للأمن السيبراني، والاستثمار المُضاعف في أنظمة الحماية المتقدّمة، وإنشاء مراكز وطنية لمراقبة ورصد الهجمات الإلكترونية، التي باتت تتميّز خلال العقد الأخير، حسبما يرى الدكتور شادي عبد الوهاب، الباحث المتخصّص في الدراسات الأمنية، بأنّها صارت أكثر عدوانية، بتركيزها على البنية التحتية الحيوية التي تخدم قطاعاتٍ واسعةً من المدنيين، وهو ما قد يحوّلها في حال استمرار غياب استراتيجيةٍ شاملةٍ للمواجهة، إلى حربٍ شاملةٍ قد تكون أكثر دمارًا، من الحروب التقليدية التي عرفها العالم على مرّ العصور.
(خاص "عروبة 22")