يمكن على سبيل المثال، استصحاب هذا التحليل لفهم حدثَيْن تاريخيَيْن بارزَيْن هما:
- "التشكيل الاستعماري" بتعبير عبد الوهاب المسيري، والذي كان حسب تفسير لينين في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرّأسمالية"، نتاج تحوّل عرفته الرأسمالية في أوروبا، وذلك بانتقالها من "رأسمالية تنافسية" يمتلك مِلكياتها الصغيرة والمتوسطة رأسماليون عدّة يكتفون بالتبادل الداخلي وتصدير البضائع خارجيًا، إلى "رأسمالية احتكارية" يحتكرها مالكون كبار برؤوس أموالٍ ضخمةٍ ومتراكمة.
فَتَحَ هذا الواقع الجديد شهية الرّأسمال للانتقال من "تصدير رأس المال البضائعي" إلى "تصدير رأس المال المالي"، فكان الاستعمار العسكري لعددٍ من بلدان الجنوب، ومنها المجتمعات العربية التي عبّرت مقاوماتِها عن فعلٍ واحد (في جوهره الاقتصادي) هو مقاومة المِلكيات المحلّية (عقارية وإنتاجية وتقليدية / ثم بورجوازية في شرطٍ لاحق) للنظام الاجتماعي الرأسمالي الأوروبي.
- الحرب العالمية الثانية: وقد كانت نتاج "كسادٍ كبيرٍ" في الاقتصاد الرّأسمالي، حسب تحليل الخبير الاقتصادي والمالي الروسي فالنتين كاتاسانوف؛ ناهيك عن التناقض التناحري آنذاك بين "رأسمالٍ متوحشٍ فاشيستيّ" (نازية ألمانيا / فاشية موسوليني / اليابان الاستعمارية القديمة) و"باقي الرأسماليّات الغربية" في فرنسا وبريطانيا وأميركا وغيرها، مدعومةً بالاتحاد السوفياتي على الجبهة الشرقية للغرب.
ولأنّها حرب اقتصادية أساسًا، فقد انتهت بتجاوزٍ مؤقتٍ للكساد، وصعود قوّتَيْن جديدتَيْن بنموذجَيْن اقتصاديَيْن مختلفَيْن و"متناقضَيْن"، هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية، بدل سابقتَيْهما فرنسا وبريطانيا. لقد كانت المجتمعات العربية في هذه المرحلة خاضعةً للاستعمار القديم، لكنّها استفادت من واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية باستثمار شرط تراجع القوى الاستعمارية القديمة لمصلحة تحرّرها.
الولايات المتحدة تصطدم اليوم بمُعيقات إقليمية ودولية لإعادة إنتاج نموذجها الجديد القائم على "الهيمنة الاقتصادية"
لا يتّسع المجال في هذا المقال لعرض التحوّلات الاقتصادية كافّة التي شهدها العالم، والتي أثّرت تأثيرًا بالغًا في الوطن العربي حربًا وسِلمًا، اضطرابًا واستقرارًا.
ولكن فلنتساءل: كيف نفهم الحرب في الشرق الأوسط اليوم؟ كيف نفهمها اقتصاديًا وجيوسياسيًا؟.
إنّ فهم هذه الحرب مرتبطٌ بماضيها، بالاستعمار والاستقلال اللذَيْن تحدثنا عن شرطَيْهما الاقتصاديَيْن أعلاه، وبماضٍ ثالثٍ نتج عن سقوط "جدار برلين" وسيادة "الأحادية القطبية الأميركية" عالميًا. وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية قد سادَت بنموذجها الاقتصادي والسياسي، السلطوي والتحكّمي، في الشرق الأوسط وعموم الوطن العربي طيلة أكثر من ثلاثة عقود، فإنّها تصطدم اليوم بمُعيقاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ لإعادة إنتاج نموذجها الجديد القائم على "الهيمنة الاقتصادية" بدل السيطرة السياسية والعسكرية، بل تصطدم قبل ذلك بمُعيقاتٍ أميركيةٍ لا يجوز إغفالها.
"المُجمّع الصناعي العسكري" داخل الولايات المتحدة الأميركية لا يريد رفع يده عن الشرق الأوسط
إنّها ثلاثة مُعيقات يجب أن تُستحضَر لفهم ما يجري في الشرق الأوسط، وهذا بيانها:
- المُعيق الأميركي: فمن جهةٍ لم تعُد أميركا، وبخاصّة "المُجمّع الصناعي المدني" / ترامب، في حاجةٍ إلى الإشراف المباشر على الشرق الأوسط، فضلًا عن أنّها لم تعد قادرةً على تدبير تحدّيات ثلاث جبهات في الوقت نفسِه: الجبهة الأوراسية، والجبهة الصينية، بالإضافة إلى جبهة الشرق الأوسط. ومن جهةٍ أخرى، فإنّ "المُجمّع الصناعي العسكري" داخل الولايات المتحدة الأميركية لا يريد رفع يده عن الشرق الأوسط، وإنْ كان الواقع الدولي الجديد يفرض ذلك ويدفعه لذلك بين فينةٍ وأخرى. أميركا بين خيارَيْن كلاهما مرّ: رفع اليد عن الشرق الأوسط وهو ما يُهدّد مصالحها ووجود الكِيان الصهيوني، أو استمرار الإشراف المباشر على الشرق الأوسط وتضييع أو على الأقل تشتيت التركيز على جبهتَيْ (الصين، روسيا). طرف أميركي مُجسَّد في "المُجمّع الصناعي العسكري"، لا يقبل بالخيار الأول، وهذا هو المُعيق الأميركي لسياسة دونالد ترامب.
ليست إيران وحدها التي لا تقبل تغوّل الكيان الصهيوني كما يروّج بعض الإعلام وإنّما هناك دول عربية كبرى ترفض ذلك
- المُعيق الدولي: لم يعُد بإمكان الولايات المتحدة الأميركية هندسة الشرق الأوسط بمفردها، سواء قرّرت استمرار الإشراف المباشر عليه، أو اتّخذت قرار رفع اليد عنه وتفويض تدبيره للكِيان الصهيوني والدول العربية وتركيا و"إيران الجديدة". فترامب يريد تغيير النموذج الإيراني القائم وتشكيل "إيران جديدة"، لكن يبقى السؤال مطروحًا: إلى أي حدّ يستطيع ترامب الوصول إلى مبتغاه في ظلّ تطلّع قوى أخرى للعب دورٍ في الشرق الأوسط، والحديث هنا عن "حليفتَيْ" إيران: روسيا والصين؟ سقوط النظام الإيراني أو تغيير "عقيدته السياسية" قد يُربك حساباتهما الجيوسياسية، ولذلك سارعت الصين تحديدًا، إلى التوسّط بمصالحةٍ بين السعودية وإيران، وهو ما خفّف اليوم من حدّة الحرب على إيران إلى حدٍّ بعيد. هناك حدثٌ آخر ينبغي قراءته في هذا الإطار، وهو إعلان كلّ من باكستان وكوريا الشمالية دعمهما لإيران، ما اعتبره محلّلون تعبيرًا عن موقفَيْ الصين وروسيا على التوالي.
- المُعيق الإقليمي: ليست إيران وحدها التي لا تقبل تغوّل الكِيان الصهيوني كما يروّج بعض الإعلام على لسان بعض المحلّلين، وإنّما هناك دول عربية كبرى ترفض ذلك. وهي إمّا دول تربطها علاقات اقتصادية مع أميركا ترامب، كالسعودية التي تُعتبر شريكةً له في مشروعٍ قائمٍ لا لإعادة هندسة الشرق الأوسط فحسب، بل لإعادة هندسة الداخل الأميركي نفسه (في هذا الإطار تأتي الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة الأميركية). وإمّا دول ذات قوّة عسكرية إقليمية، كمصر التي لا تقبل بـ"شرق أوسط جديد" على حسابها. بهذا التحليل يمكننا فهم التضامن السعودي مع إيران بعد العدوان "الإسرائيلي" عليها، وكذا "التنسيق المِصري - الإيراني" الذي تحدثت عنه تقارير إعلامية مؤخرًا (بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني لمصر).
كيف تُفسّر هذه المواقف والأحداث - بما فيها الحرب الإسرائيلية الإيرانية - على وجه العموم؟ التفسير الجوهري لها هو: بناء نموذج أميركي جديد قائم على منافسة الصين اقتصاديًا وتوجيه الاقتصاد الأميركي إلى التصنيع المدني وتطوير قوى الإنتاج الإلكترونية والذكية وتقييم العلاقات الخارجية اقتصاديًا، لكن يبقى أمام هذا النموذج مُعيقات دولية وإقليمية وأميركية كما تقدّم.
(خاص "عروبة 22")