في فبراير الماضي، حضرت المؤتمر الصحفي الذي جمع الرئيس دونالد ترامب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في القاعة الشرقية داخل البيت الأبيض، حيث قال نتنياهو إن من بين عشرات الزيارات لواشنطن، فإن هذه الزيارة هي الأهم والأكثر تاريخية، وبالفعل، كانت كذلك. وأعقب الزيارة قيام نتنياهو بزيارتين إضافيتين للبيت الأبيض، في استثناء غير مسبوق (من توجه حاكم دولة في حالة حرب - عدوان - إلى نفس العاصمة ثلاث مرات في أقل من نصف عام)، وذلك لخطورة ما يُبحث بين نتنياهو وترامب، ويتعلق بمستقبل قطاع غزة.
في زيارة فبراير، ظهر أن نتنياهو وترامب متفقان تمامًا اتفاقًا لم يكن نتنياهو، ولا أي رئيس وزراء إسرائيلي، يتخيل يومًا أن يسمعه من رئيس أمريكي. سرد نتنياهو - وهو المسؤول الإسرائيلي المتهم بارتكاب جرائم حرب على خلفية جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة- قائمة بأهدافه الاستراتيجية، وقد تبناها الرئيس ترامب المنتشي بفوزه بفترة حكم ثانية تاريخية آنذاك، مع سيطرة على مجلسي الكونجرس والمحكمة العليا. وتعهد ترامب بعدة نقاط أساسية، منها إعادة كل المحتجزين الإسرائيليين، وضرورة القضاء على حركة "حماس"، وتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، والاستمرار في السعى لتحقيق التطبيع السعودي الإسرائيلي، وترك الباب مواربًا لدعم ضم إسرائيل للضفة الغربية. كما دعا ترامب الدول الغنية لتحمل مسؤولية إعادة إعمار غزة، متجاهلًا فكرة إقامة دولة فلسطينية.
ورغم إشادة نتنياهو باستعداد ترامب "للخروج من نسق التفكير التقليدي الذي فشل مرارًا وتكرارًا، وأنه يفكر خارج الصندوق.. ويقول أشياء يرفض الآخرون قولها"، رفضت الدول العربية أخذ كلمات ترامب بجدية، بعيدًا عن التحفظات الدبلوماسية والمعارضة الشفوية عديمة القيمة. قال ترامب إنه يمكن أن يرى الولايات المتحدة تتخذ "موقفًا طويل الأمد" لغزة وتنقل سكانها إلى "قطعة أرض جيدة وجديدة وجميلة" في بلد آخر، وتطور الأراضي التي مزقتها الحرب. وعندما سُئل عن عدد الفلسطينيين الذين يجب نقلهم خارج غزة، أجاب: "جميعهم". يبلغ عدد سكان غزة حوالى 2.2 مليون نسمة، وقدم ترامب الفكرة كحل عملي للتدمير الذي طال القطاع منذ بدء القصف، ومن ثم الاجتياح الإسرائيلي عقب هجمات 7 أكتوبر 2023.
وأكد ترامب أن سكان غزة "سيرغبون في مغادرة غزة إذا كان لديهم خيار، وفي الوقت الحالي، ليس لديهم خيار"...رغم الرفض الفلسطيني والعربي والدولي لفكرة تهجير أهل غزة، تتجاهل واشنطن وإسرائيل ذلك، وتعملان بكل ما يلزم لدفع سكان غزة إلى الرحيل عن أراضيهم، خاصة في ظل اقتصار التحركات العربية على الإدانات الدبلوماسية. في الواقع، أرى أن ترامب لا يكترث الآن بتحقيق سلام عادل للفلسطينيين، وبعد أن دخل التاريخ من أوسع أبوابه بإعادة انتخابه لفترة ثانية منفصلة عن الأولى، رغم إدانته جنائيًا في عشرات القضايا، إلا أنه يسعى إلى ترك إرث كبير، وتحقيق ما فشل فيه 13 رئيسًا أمريكيًا من إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وإحلال السلام في الشرق الأوسط. لا يكترث ترامب إن كان هذا السلام عادلًا أو مشروعًا أو مراعيا للشرعية والقوانين الدولية؛ فهذه قيم لا تعني له شيئًا.
يرغب ترامب في تحقيق سلام ممكن، غير عادل، لا يكترث بأي حقوق تاريخية للفلسطينيين. ويؤمن ترامب بأنه يقترب من تحقيق هذا الهدف، خاصة مع الخطوات الإسرائيلية المتجهة نحو احتلال كامل، وربما دائم، لقطاع غزة. بعد ما يقرب من ستة أشهر على طرح ترامب سيناريو التهجير، وفي ظل الصمت العربي على الأرض، أرى أن ترامب نجح في إخافة الدول العربية. نجح ترامب بعدما رفع سقف مطالبه في لعبة التفاوض، التي شبهتها مسبقًا بلعبة البوكر، وهي هزّ ثقة بقية الأطراف في إمكانياتهم، وجعلهم يخضعون لما كان يهدف إليه أساسًا: (حمل عبء غزة، ومواجهة العرب أنفسهم لحركة حماس).
نجح ترامب بعدما كرر مطالب تهجير أهل غزة إلى مصر والأردن، وكرر مقولته إن مصر والأردن سيقبلان في نهاية المطاف، رغم رفضهما الصريح والعلني، ونجح عندما كرر أن قطاع غزة قطعة أرض عقارية ذات قيمة كبيرة، وموقع فريد، ومناخ مثالي، وأنه يمكن تطويره بأموال الدول الغنية في المنطقة. نجح ترامب في التأكيد أن أهل القطاع لن يعودوا إليه بعد تهجيرهم. نجح ترامب في الاقتراب من توريط الدول العربية ماليًا، وأمنيًا، وبنائيًا، وهندسيًا، وعمليًا في عملية إعادة بناء القطاع، وإدارته، والقيام بمهام الخدمات المدنية المختلفة، بل وقد يمتد دورها إلى المهام الأمنية.
نجح ترامب، فيما يبدو، في الفصل الكامل بين قطاع غزة والضفة الغربية، ووأد أي دعوة لبسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على قطاع غزة، أو إيجاد سلطة فلسطينية موحدة، سواء تحت حكم السلطة أو حكومة وحدة وطنية فلسطينية. نجح ترامب في دفع الجانب العربي رسميًا إلى طلب خروج حركة "حماس" من معادلة حكم غزة، وتسليم أسلحتها. نجح ترامب في جعل مستقبل حركة "حماس" (ورغبته في القضاء عليها) قضيةً على الجانب العربي التعامل معها وحسمها.
وفي ظل صمت رسمي عربي غير مفهوم، نجح ترامب في فرض نظرته لقضية الشرق الأوسط من عدسة اليمين الإسرائيلي المتطرف، والمسيحيين الأمريكيين الإنجيليين، ولا يبدو أن العرب مستعدون لمواجهة حتمية، ليست بالضرورة عسكرية، قد تكون مؤجلة، مع جهود فرض خريطة على المنطقة، عاجلًا أم آجلًا.
(الشروق المصرية)