على قاعدةٍ يعرفها اللبنانيون جيدًا سارت جلسة الحكومة الاخيرة والتي توجت مبدأ "لا غالب ولا مغلوب" واستطاعت "بحنكة" أن تخرج بقرار لا يفجر الداخل ولا يتعارض مع الخارج ولكنه "يماطل" في تنفيذ الالتزامات التي سبق وأقرها في جلسات سابقة. فالمجتمعون بعد اتصالات طويلة وجهود حثيثة خرجوا بالترحيب بخطة الجيش لحصر السلاح بيد الدولة ولكن دون إقرار مهل زمنية واضحة أو استخدام عبارة إقرار الخطة التي يرفضها جملة وتفصيلًا الثنائي الشيعي بعدما انسحب الوزراء الخمسة المحسوبين عليهم لتسجيل موقفهم المناهض. وهذا "المخرج" الذي تم التوصل اليه سيكون تحت مجهر واشنطن وتل أبيب وكيفية تلقف ما جرى خاصة أن كل المعطيات كانت تشير بوضوح إلى عدم وجود أي رغبة أو محاولة لبنانية لتفجير الأوضاع الداخلية بعد تهديدات "حزب الله"، سواء بالحرب الاهلية أو بمواجهة الجيش.
فـ"كرة النار" التي كانت تدحرج أخمدتها الجلسة الاخيرة التي ستكون عرضة لتفسيرات كثيرة ومتناقضة بين من يرى أنها رضخت لتهديدات "حزب الله" وبين من يعتبر أن الحكومة أعدت رسم السيناريو الأمثل في ظل الظروف المعقدة الراهنة، خصوصًا تركيزها على ضرورة التزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي التي تحتلها ووقف الاعتداءات كي يتمكن الجيش من استكمال بسط سيطرته. وعليه يمكن القول إن تأجيل الحسم كان السمة الراهنة وذلك بانتظار ما ستحمله الأيام المقبلة من معطيات، وتحديدًا ما يتعلق بالمفاوضات الاميركية – الايرانية، لأن هذا الملف لا يمكن أن يتم الحديث عنه بعيدًا عن نفوذ طهران ومحاولتها الاحتفاظ ببعض أوراقها التفاوضية رغم الخسائر الكبيرة التي مُني بها محورها بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وفي كل الأحوال، فإن الحكومة استردت قرار الحرب والسلم من "حزب الله" بعد عدة "مغامرات" وأكدت أنها مع حصر السلاح وبسط نفوذها على كامل أراضيها وأن هذا لا تراجع عنه تحت أي ضغوط ولكنها اعطت الجيش هامشًا من الوقت والمهل للتحرك وعدم تقييده بجدول زمني معين حفاظًا على السلم الأهلي ودرءًا لأي فتنة. إلى ذلك، رحبت فرنسا بهذه الخطوة واعتبرت وزارة الخارجية، في بيان، أنها "تمثل مرحلة جديدة إيجابية في سياق قرار الحكومة اللبنانية الصادر في 5 آب/ أغسطس الماضي"، داعية كافة الأطراف اللبنانية إلى دعم التنفيذ السلمي والفوري لهذه الخطة، "بهدف المضي قدمًا نحو لبنان مستقر، وذي سيادة، ومعاد إعماره ومزدهر، مع ضمان وحدة أراضيه ضمن حدود متّفق عليها مع جيرانه، وفي سلام معهم".
بدوره، طالب رئيس الجمهورية جوزاف عون الولايات المتحدة الأميركية بالضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي تحتلها في الجنوب، ليتمكن الجيش من استكمال انتشاره حتى الحدود الدولية، وذلك خلال استقباله قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الأميرال براد كوبر الذي وصل إلى بيروت أمس، السبت، تمهيدًا للاجتماع الذي سيُعقد اليوم بلجنة الإشراف على وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل. كما أكد عون، بحسب البيان الصادر عن الرئاسة، "أهمية استمرار واشنطن في دعم الجيش وتوفير التجهيزات والآليات اللازمة له، لتمكينه من القيام بالمهام الموكلة إليه على طول الأراضي اللبنانية، سواء في حفظ الأمن أو منع التهريب والأعمال الإرهابية وضبط الحدود اللبنانية - السورية وغيرها من المهام التي يقوم بها العسكريون الذين يعملون في ظروف اقتصادية صعبة".
وبانتظار ما ستؤول اليه الاوضاع خاصة أن التعديات الاسرائيلية لا تتوقف على لبنان بل تشهد تصعيدًا مستمرًا، تحتل الحرب على غزة سلم الاهتمامات وتتصدر العناوين بعدما دأبت قوات الاحتلال على نسف الأبراج السكنية والشقق والمنازل في مدينة غزة والتي كانت تأوي المئات من الفلسطينيين الذين باتوا بلا مأوى وذلك تطبيقًا لخطة احتلال المدينة وتهجير سكانها البالغ عددهم مليون شخص ودفعهم للتوجه إلى الجنوب. وكان الجيش الإسرائيلي قال إن منطقة المواصي بخان يونس جنوبي القطاع "منطقة إنسانية"، حيث ستجرى فيها أعمال لتوفير خدمات إنسانية أفضل، ولكن ذلك يعتبر مجرد أكاذيب خاصة أن جميع الأحياء تحت وابلًا من القصف الذي لا يرحم. من جهته، أدان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استهداف الاحتلال الأبراج والعمارات السكنية في المدينة، والتي تضم أكثر من 51 ألف مبنى وبرجًا سكنيًا، وكان آخرها "برج السوسي" بعدما دمرت طائرات إسرائيلية "برج مشتهى" في وقت سابق.
ويضيق القطاع بسكانه خاصة أن الاحتلال بات يسيطر فعليًا على معظمه في وقت تشتدّ الاوضاع الانسانية وتتفاقم المعاناة بظل انعدام أي تقدم في المفاوضات المتوقفة منذ قرار اسرائيل تجاهل الرد على موافقة "حماس" على الاتفاق المطروح، والذي كان ينادي به رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، إلى أن قرار تفجير المباحثات ورفض ابرام اي صفقة تعيد الأسرى الاسرائيليين إلى ذويهم. هذا وتشهد تل أبيب والقدس مظاهرات مكثفة واحتجاجات متفاقمة تزيد من الضغوط الملقاة على نتنياهو فيما ترتفع وتيرة الاحتجاجات في مختلف العواصم الاوروبية للتنديد بحرب الإبادة ومطالبة حكومات هذه الدول باتخاذ إجراءات قوية لمعاقبة إسرائيل على جرائمها. فللمرة الـ30 منذ بدء الحرب، تظاهر عشرات الآلاف في العاصمة البريطانية لندن، احتجاجًا على ما يجري بينما قاد أكثر من ألف شخص مظاهرة داعمة لحركة "العمل من أجل فلسطين" (فلسطين أكشن) التي حظرتها الحكومة وصنفتها "منظمة إرهابية".
في غضون ذلك، يشكل الوعي المتزايد بالقضية الفلسطينية ورفض الدعاية الاسرائيلية عائقًا جديدًا امام تل أبيب التي لطالما روجت لنفسها على أنها "الضحية". فقد كشف تحقيق استقصائي لموقع "دوب سايت نيوز"، عن توقيع إسرائيل عقدا بقيمة 45 مليون دولار مع شركة "غوغل"، لإخفاء مظاهر التجويع في غزة، وذلك بالتزامن مع تحذيرات دولية من مخاطر استخدام الغذاء كسلاح في الحرب والمطالبات المتواصلة من أجل رفع الحصار وفتح المعابر لتدفق المساعدات المتوقفة عمدًا أمام معبر رفح الحدودي. يُذكر ان الحملة شملت أيضَا مؤثرين أميركيين وعرب للترويج للراوية المفبركة إلى جانب إنفاق ضخم على الإعلانات الممولة لصالح شركات كـ"غوغل" و"يوتيوب" وغيرها من المنصات.
سياسيًا، يتصاعد التوتر بين مصر وإسرائيل بسبب محاولات تهجير الفلسطينيين "الطوعية". فقد بدا وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي حاسمًا لجهة وصف ذلك بـ"الهراء"، مشددًا على أن "مسألة التهجير خط أحمر للأردن ومصر والدول العربية، ولن يتم السماح به تحت أي ظرف من الظروف". وأضاف: "إذا كانت هناك مجاعة من صنع البشر فهذا لدفع السكان للخروج من أرضهم". ولفت عبد العاطي إلى أن تعنت إسرائيل عقبة رئيسية أمام تحقيق أي تقدم في مسار التهدئة، وقال "لدينا خطة عربية إسلامية متكاملة بشأن الترتيبات الأمنية في غزة وإدارة القطاع والتعافي المبكر وإعادة الإعمار"، و"أن الترتيبات الأمنية تتضمن تمكين الشرطة الفلسطينية ونشرها بقطاع غزة". أما المفوض العام لوكالة "الأونروا" فيليب لازاريني فأكد أن "إسرائيل تجاوزت كل الحدود والخطوط الحمراء"، داعيًا إلى رفع القيود المفروضة على المنظمات الإنسانية في غزة.
في الملف السوري، قدّم رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور الجمهوري روجر ويكر، تعديلًا يتضمن إلغاء كامل لعقوبات "قيصر" المفروضة على سوريا. ويتزامن ذلك مع تحركات تقوم بها منظمات الجالية السورية في الولايات المتحدة من أجل كسب تأييد أعضاء في الكونغرس الأميركي لتمرير مشروع قانون في مجلس النواب ينص على إلغاء هذا القانون الذي يمنع البلاد من إطلاق مسار إعادة الاعمار ويحدّ من تعافيها الاقتصادي. في حين بات من المعروف أن الرئيس أحمد الشرع سيشارك في الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي تُعقد في الـ 22 من الشهر الجاري. وتحاول دمشق معالجة تداعيات الحرب الدموية ولكنها تصطدم بالعديد من العقبات، وأهمها الانتهاكات الاسرائيلية التي تصاعدت وتيرتها في الأسابيع الأخيرة على شكل قصف طال مواقع عسكرية وبنى تحتية، وتوغلات داخل الأراضي السورية، مما أسفر عن خسائر بشرية ومادية على الرغم من المفاوضات العلنية التي تجري بهدف ارساء تفاهمات أمنية بدعم أميركي واضح.
على الصعيد الدولي، رفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اقتراح نظيره الروسي فلاديمير بوتين بالمجيء لموسكو والتفاوض بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا طارحًا على الاخير القدوم إلى كييف. واعتبر أن بوتين ليس لديه نية حقيقية لإنهاء الحرب، متهما إياه بتقديم عروض لا يمكن قبولها لعرقلة العملية الدبلوماسية. ومعركة "شدّ الحبال" هذه تستمر بين البلدين على الرغم مما أُشيع سابقًا عن تقدم واتفاق أميركي – روسي بهذا الاطار، إلا ان أي نتائج عملية لم تتحقق بل على العكس يرتفع منسوب الهجوم الروسي على اوكرانيا مخلفًا المزيد من الضحايا والاضرار.
وإليكم أبرز ما ورد في الصحف الصادرة اليوم في عالمنا العربي، والتي ركزت بأغلبيتها الساحقة على ما يجري في غزة من عمليات لتصفية القضية الفلسطينية وتهجير السكان:
فتحت عنوان "ثبات مصر وغطرسة إسرائيل"، كتبت صحيفة "الخليج" الاماراتية "خطط إسرائيل المتطرفة بدأت تصطدم بالحقيقة، وهي أن مصر وكل الدول العربية وغالبية ساحقة في المجتمع الدولي لن تسمح بتهجير الفلسطينيين، الذين يذهل صبرهم وصمودهم العالم بأسره". وأضافت "إن نهاية هذه المعركة، التي تجاوزت بها إسرائيل كل الحدود، لن تكون تصفية للقضية الفلسطينية أو تهجيرًا لسكان غزة، وإنما ستكون مزيدًا من النبذ والعزلة إقليميًا، وقد تدفع بدول المنطقة إلى إعادة النظر في اتفاقيات السلام التي أصبحت في خطر وبعيدة تمامًا عن الواقع، لأن إسرائيل لم تتغير وفقدت مصداقيتها الضعيفة أصلًا".
في السياق نفسه، أكدت صحيفة "الأهرام" المصرية أن "خطط التهجير تأتي كمدخل لتصفية القضية الفلسطينية التي يسعى رئيس الوزراء الإسرائيلي لها منذ اليوم الأول لوصوله للحكم في كانون الثاني/ ديسمبر 2022، وليس كرد فعل لأحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، مشددة على أن "مصر أنها لن تكون أبدًا شريكا في هذا الظلم، ولن تكون بوابة التهجير، وأن هذا الأمر يظل خطًا أحمر غير قابل للتغيير، ما يستدعي مواجهة حالة الفوضى التي تسعى إسرائيل لتكريسها، ووقف إطلاق النار في القطاع، والانسحاب منه، وتوفير الدعم الدولي لتمكين السلطة الفلسطينية الشرعية من العودة لغزة"، بحسب تعبيرها.
صحيفة "عكاظ" السعودية، من جانبها، لفتت إلى أنه "منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي كانت المقاومة الفلسطينية، بكافة فصائلها، تدرك بوضوح أنها الطرف الأضعف في المعادلة العسكرية، غير أنها الطرف الذي يملك الحق، ولهذا السبب استمر الصراع عقودًا وقد يستمر لعقود أخرى قادمة"، لافتة إلى أنه "ليس أمام المقاومة الفلسطينية سوى خيارين: إما المقاومة وإما الاستسلام، والاستسلام مرفوض جملة وتفصيلاً لأنه يعني ضياع الحق".
ورأت صحيفة "الغد" الأردنية أنه "لا يمكن الركون إلى اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، لمنع أي استهداف للأردن، لأن إسرائيل ذاتها أنهت اتفاقية أوسلو التي تبين أنها مجرد فخ لانتزاع اعتراف بشرعية إسرائيل وتجميع المقاتلين الفلسطينيين من أرجاء الدنيا وحشرهم تحت عين الاحتلال"، محذرة من استهداف "الأردن عبر خاصرتين، الاولى ملف الاقصى الذي يرعاه الأردن وسيتعرض لأكبر موجة اقتحامات خلال الشهر الجاري والشهر المقبل، والملف الثاني ملف أبناء الضفة الغربية والضغط عليهم للخروج برضاهم او بشكل اجباري عبر ظروف صعبة".
(رصد "عروبة 22")