يتسم مشهد الملف النووي الإيراني بمزيد من السخونة والتصعيد. وهو بالطبع يؤثر ويتأثر بالملفات الساخنة الأخرى والمتزايدة في درجة سخونتها في المنطقة. عاد الحديث بقوة عن احتمال العودة إلى "نموذج الحرب"، حرب الـ12 يوما التي شنتها إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة ضد إيران (13 إلى 24 يونيو الماضي) لتدمير البنية التحتية النووية الإيرانية. وبالطبع لا يدرك أحد كليا مدى الأضرار التي أحدثتها تلك الحرب للقدرة النووية الإيرانية وما هو الإطار الزمني المعقول لإعادة بناء ما دمرته الحرب الإسرائيلية.
في الماضى لجأت إسرائيل إلى عمليات التخريب وكذلك الاغتيال للعلماء النوويين لمنع إيران من تطوير أي قدرة نووية. وللتذكير فإن أحد أهم مبادئ العقيدة النووية الإسرائيلية منذ اليوم الأول لولادة الاستراتيجية النووية الإسرائيلية تمثل في "حظر" النووي كليا في المنطقة بالقوة لتكون إسرائيل الدولة الوحيدة النووية في الشرق الأوسط، حتى لو كان الهدف عند أي طرف إقليمي امتلاك قدرة نووية مدنية.
تأكيد الأطراف الأوروبية (فرنسا وبريطانيا وألمانيا) الأعضاء في الاتفاق النووي المعروف "باتفاق 5 زائد 1" مع إيران لعام 2015 على العودة لتفعيل آلية الزناد ضد إيران، أي العودة إلى تفعيل سلة من العقوبات الدولية ضد إيران حسب ما يسمح به قرار مجلس الأمن الخاص بالاتفاقية (القرار 2231) فيما لو أخلت إيران بالشروط المطلوبة. المشهد اليوم، يمكن وصفه بالتصعيد (السياسي) الحاد بعد الجمود المتوتر في المفاوضات والحامل لمزيد من التوترات بين إيران من جهة والولايات المتحدة والدول الأوروبية الثلاث (المشار إليها سابقا) من جهة أخرى رغم استمرار التفاوض غير المباشر بشكل خاص بين الأطراف المعنية.
الأمر ذاته يحصل بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية إذ تتطلع إيران إلى ضرورة بلورة إطار جديد للتعاون بين الطرفين فيما يرد المدير العام للوكالة المذكورة محذرا بأن مجال الدبلوماسية لن يستمر طويلا. وللتذكير فإن الوكالة ذاتها أشارت إلى أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب والذي وصل إلى نسبة 60 بالمائة (وبالتالي سهولة الوصول إلى ما يعرف بالعتبة النووية أو درجة تخصيب 90 بالمائة) سيسمح بإنتاج 10 رؤوس نووية وبالتالي "دخول النادي النووي". خيار صار يعرف بالخيار الكوري الشمالي. ويزداد الحديث عن احتمال لجوء إيران إلى هذا الخيار.
خيارات أو مسارات ثلاث توجد اليوم على "المسرح الاستراتيجي الشرق أوسطي" في هذا الخصوص: أولا، الاستمرار بالتفاوض بشكل متقطع ومباشر وغير مباشر قبل بلوغ نهاية هذا الشهر حيث تدخل العقوبات حيز التنفيذ، للوصول إلى صيغة تفاهم جديدة وهو أمر ليس من السهل التوصل إليه. ويعود التوتر والتصعيد السياسي بأشكال مختلفة ليحكم الوضع الغربي الإيراني ومع التوتر المواجهة غير المباشرة في الملفات الإقليمية الساخنة والتي أشرنا إليها سابقا كوسيلة للتفاوض.
ثانيا، قيام إسرائيل بدعم من واشنطن بحرب جديدة على إيران تؤدي إلى توترات مفتوحة في الزمان والمكان الشرق أوسطي بانتظار العودة غير السهلة ـــ بالطبع ــــ لإطلاق مسار تفاوضي مستقبلي بصيغة مختلفة إن لم يكن بالشكل ففي المضمون مع مزيد من التعقيدات التي تنتج عن حرب من هذا النوع. مفاوضات تستند إلى المعطيات والدروس المختلفة لتلك الحرب فيما لو حصلت، مع التذكير بالعقدة الجديدة التي أدخلها الرئيس الأمريكي على طاولة المفاوضات وقوامها الرفض الكلي لامتلاك إيران لأي مخزون من اليورانيوم على أراضيها حتى للاستعمال السلمي كما تنص عليه القواعد والمبادئ المعمول بها في هذا المجال، واستبدال ذلك بقبول إيران بمركز تخصيب إقليمي في الخليج تشارك فيه ولكن خارج أراضيها وهو أمر مرفوض كليا من إيران.
ثالثا، نجاح الوساطة الروسية الصينية، أو الدبلوماسية الاستباقية ولو في اللحظة الأخيرة، للتمديد أشهر ست، في إطار مرجعية قرار مجلس الأمن المشار إليه سابقا، قبل تفعيل آلية الزناد باعتبار أن الوقت الجديد قد يسمح بالتوصل إلى تفاهم جديد. تفاهم قد يستند إلى ما يسميه البعض بالصفقة الكبرى التي قد تشمل إلى جانب الملف النووي بعض من الملفات الإقليمية الأخرى. الأمر الذي يعني أيضا مشاركة أطراف دولية وإقليمية أخرى بشكل خاص معنية مباشرة بهذه الملفات، في تسهيل التوصل إلى تفاهم شامل وواسع يسمح بالعمل على تعزيز الاستقرار في الإقليم الذي يعيش على صفيح ساخن ويزداد سخونة كل يوم.
لا ندري أي الاحتمالات الثلاثة هو الأكثر حظا في تشكيل المسار المستقبلي لهذا النزاع، لكن المستقبل القريب سيحمل المؤشرات على المسار الذي سيتم إتباعه فى شرق أوسط حافل بالتوترات والصراعات المختلفة الأشكال والتداعيات والترابط المباشر وغير المباشر بينها.
(الشروق المصرية)