لا تزال المنطقة تحت تأثير الغارات الاسرائيلية على قطر والتي شكلت "صدمة" في الشارع العربي الذي بات يطرح العديد من علامات الاستفهام وأهمها ما يتعلق بمخططات تل أبيب ونزعتها لتفتييت دول المنطقة وشرذمتها وإخضاعها لمنطق "القوة المطلقة" الهادف لبسط سيطرتها وتعزيز نفوذها. فهمجية اسرائيل لم تعد حديثًا عابرًا أو تصريحًا سياسيًا بل خطة ينفذها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مستفيدًا من الدعم الأميركي وضعف الدول الأوروبية والعربية وعجز مؤسسات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي عن إيقاف حمام الدم المستمر منذ أحداث 7 تشرين الاول/ أكتوبر 2023، حيث استغلت تل أبيب ما جرى من أجل فرض موازين جديدة وقلب المعادلات التي كانت سائدة.
ولكن الخطير هو أن عربدة إسرائيل تخطت كل حدود، فهي تقصف عواصم عربية دون رادع أو خوف من أي عقاب وتهدد بعظائم الأمور ويتوعد اليمين المتطرف فيها بالمزيد من الخراب والدمار. وما حدث في العاصمة القطرية، الدوحة، يعتبر خير دليل على أن فرص السلام في غزة تتلاشى بينما يعلو صوت الموت والتهجير على ما عداه وهو ما يتناسب مع خطط نتنياهو الهادفة إلى استكمال حرب الابادة، لاسيما أن استهداف الوفد المفاوض لحركة "حماس" جاء من أجل تعقيد المشهد وتعطيل المفاوضات الهشة أصلًا وإزاحة الدوحة عن هذا الملف رغم دورها الأساسي في الوساطة، ومنذ اليوم الأول لبدء العملية العسكرية الاسرائيلية. كما ان الضربة كشفت وجود "تصدع" في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب حيث نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية أن الرئيس دونالد ترامب أبلغ نتنياهو، بأن قراره باستهداف "حماس" داخل قطر "لم يكن قرارًا حكيمًا". وأضافت الصحيفة أن ترامب غضب عندما علم بالهجوم من الجيش الأميركي، لا من إسرائيل، كما غضب لقصف أراضي حليف للولايات المتحدة كان يتوسط في مفاوضات إنهاء الحرب.
إلا أن "الحكمة" نفسها لا يحتاج نتنياهو الذي استكمل أمس، الأربعاء، رفع سقف التصعيد مع مطالبته قطر بطرد قادة الحركة الفلسطينية أو تقديمهم إلى العدالة "لأنكم إن لم تفعلوا، فسنفعل ذلك"، مقارنًا الضربة الإسرائيلية بالعمليات الأميركية التي أعقبت هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، والتي لسخرية القدر تُصادف ذكراها اليوم. وهذا الربط الهادف إلى التأكيد على أن الأهداف الأميركية – الاسرائيلية واحدة موحدة في مواجهة "الإرهاب" الذي تدعي تل ابيب محاربته وتنصب نفسها حاكمًا على المنطقة حين قال "لقد فعلنا بالضبط ما فعلته أميركا عندما لاحقت إرهابيي "القاعدة" في أفغانستان وبعد أن ذهبوا وقتلوا زعيم التنظيم أسامة بن لادن في باكستان". ولكن الرّد القطري الحاسم لم يتأخر بعدما أكد رئيس الوزراء، وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن بلاده لا تقبل التهديدات الإسرائيلية "المتهورة"، مشيرًا إلى أنّ "هناك ردًا سيكون من المنطقة ويجري بحثه مع الشركاء الإقليميين". كما أوضح أن نتنياهو "كان يضيع الوقت في ملف الوساطة ولم يكن جادًا"، قائلًا "بقصفه وفد حركة "حماس" قتل كل أمل للرهائن الإسرائيليين في غزة".
وتطرح هذه الضربة مصير الحركة مستقبلًا في الدوحة إلى جانب المسار الذي سوف تتخذه المباحثات بعد نسف الوساطة القطرية والخلافات المتفاقمة بين تل أبيب والقاهرة بشأن ملف تهجير الفلسطينيين الذي تعتبره "خطًا أحمر" لن تتهاون فيه، ما يعني عدم وجود طرف يمكن أن يسهم في إرساء هدنة بالقطاع الذي يشهد عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع ممنهج مع توسيع العملية العسكرية وتوجيه انذارات متتالية لسكان مدينة غزة لإخلاء منازلهم وأحيائهم مع تعمد الاحتلال تدمير الأبنية والأبراج السكنية بحجة أنها بنية تحتية لحركة "حماس"، بينما الواقع يؤكد بأن تلك الخطوة هدفها تهجير الفلسطينيين ودفعهم للنزوح مجددًا إلى الجنوب تجاه المواصي، غربي محافظة خان يونس، بزعم أنها "منطقة إنسانية آمنة". هذا واستشهد 72 شخصًا خلال الساعات الـ24 الماضية، بينهم 53 في مدينة غزة، خصوصًا أن معظم الاهالي يرفضون المغادرة ويتمسكون بالبقاء على الرغم من استخدام جيش الاحتلال شتى وسائل القتل والتدمير والترهيب النفسي لدفع أكثر من مليون فلسطيني إلى خارج المدينة.
تزامنًا، دعت منظمة العفو الدولية (أمنستي) إسرائيل إلى الإلغاء الفوري لأمر التهجير الجماعي الذي أصدره جيشها لسكان مدينة غزة، مؤكدة أن هذا الأمر يفاقم معاناة المدنيين وسط إبادة جماعية مستمرة. ولكن كل هذه المناشدات والتنديدات لم تلقَ أي استجابة من قبل الاحتلال الذي يرفض أيضًا الاستماع إلى مطالب الشارع الاسرائيلي الذي ينفذ يوميًا مظاهرات حاشدة تدعو إلى وقف الحرب وإبرام صفقة تؤدي إلى إطلاق سراح الأسرى الذين "يقامر" نتنياهو في حياتهم بحجج وذرائع واهية. هذا وكان الأخير مثل مجددًا أمام المحكمة المركزية في تل أبيب للرّد على تهم تتعلق بالفساد والرشوة وإساءة الأمانة في 3 قضايا معروفة بالملفات الأكثر خطورة، وقدم المستشار القضائي للحكومة سابقًا أفيخاي مندلبليت لائحة الاتهام المتعلقة بها نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
على الصعيد السياسي، استقبل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، أمس الأربعاء ، الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في لندن على وقع مظاهرات واحتجاجات رافضة لاستمرار الحرب على غزة. ويأتي هذا اللقاء بعد اجتماع ستارمر مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يوم الاثنين الماضي. وبحسب المتحدث الرسمي، أعرب ستارمر عن "قلقه البالغ" إزاء الوضع في غزة، مطالبًا بـ"منع تفاقم المجاعة من خلال السماح بدخول المساعدات ووقف العمليات الهجومية". وتشهد العلاقة بين الطرفين توترًا ملحوظًا بعد الانتقادات المتتالية من الجانب البريطاني الذي أعلن عن نيته الاعتراف بالدولة الفلسطينية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر. إلى ذلك تتجه الأنظار إلى "أسطول الصمود" الهادف لكسر الحصار المفروض على غزة وذلك عقب إعلان وزارة الداخلية التونسية أن الاعتداء على سفينة "ألما" الراسية في ميناء سيدي بوسعيد كان "مدبراً". وكانت السفينة تعرضت إلى "مقذوف ناري" من طائرة مسيّرة وذلك بعد تعرض سفينة أخرى إلى إعتداء مماثل قبل يوم واحد في وقت تتوجه أصابع الاتهام إلى اسرائيل بالوقوف خلف هذه الاعتداءات لثني القافلة عن استكمال مسارها.
وفي سياق متصل، شنّت إسرائيل موجة جديدة من الضربات الجوية على مواقع تابعة للحوثيين في اليمن، فيما أعلنت وزارة الصحة عن مقتل 35 شخصًا وجرح 131 آخرين في صنعاء والجوف. وتحدثت "هيئة البث الإسرائيلية" عن استخدام 30 قنبلة في الهجمات العنيفة التي ألقتها 10 طائرات حربية على 15 هدفًا. فيما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن قواته قصفت في صنعاء وأماكن أخرى باليمن معسكرات بينها وحدة الإعلام الحوثية. وأوضح أن ما سماها يد إسرائيل الطويلة "ستصل لتضرب الإرهاب في كل مكان يشكل تهديدًا لنا". وكان الجيش الاسرائيلي أشار، في بيان، إلى أن من بين الأهداف التي تم قصفها معسكرات للحوثيين ومقر دائرة الإعلام العسكري وموقعًا لتخزين الوقود. من جهته، ندّد رئيس المجلس السياسي الأعلى لـ"أنصار الله" (الحوثيين) مهدي المشاط بـ"العدوان الصهيوني الفاشل"، مشددًا على أن "الرد آتٍ لا محالة". كما أكد الناطق العسكري باسم الجماعة يحيى سريع أن "العدوان الغاشم لن يمر دون رد وعقاب".
ومن اليمن إلى الملف اللبناني المفتوح على كل السيناريوهات رغم محاولات الحكومة تفكيك "الألغام" المتعلقة بقرار سحب سلاح "حزب الله" ومنع أي انعكاسات داخلية على الشارع اللبناني الذي يشهد إنقسامًا عاموديًا. ويمكن القول إن رئيس الجمهورية جوزاف عون نجح في لعب دور التهدئة والحدّ من مفاعيل الورقة الأميركية التي تم ربطها بالخطوات العملية من الجانب الاسرائيلي الذي يُصعد يوميًا من عملياته في لبنان. وإزاء هذا الواقع ستكون الأيام المقبلة مفصلية لمعرفة الاتجاه الذي ستتخذه واشنطن وتل أبيب بعد القرارات اللبنانية الأخيرة. في غضون ذلك، أعلن "البنتاغون" أنّه وافق على تقديم مساعدات عسكريّة للبنان بقيمة 14.2 مليون دولار، بهدف تعزيز قدرات الجيش اللبناني على مواجهة التهديدات الداخلية وحفظ الاستقرار، لافتًا إلى أن الحزمة الجديدة ترمي إلى "رفع كفاءة القوات في مواجهة التحديات الأمنية الداخلية والتعامل مع نشاط المجموعات المسلّحة، بما في ذلك "حزب الله". ولم يقدّم الإعلان تفاصيل عن بنود المساعدة أو جدولها الزمني، وما إذا كانت تشمل تجهيزات محدّدة أو برامج تدريب إضافية.
إيرانيًا، فجر وزير الخارجية عباس عراقجي "قنبلة من العيار الثقيل" حين أعلن أن الاتفاق الجديد الذي وقع في القاهرة مع "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" لا يتيح وصولًا مفتوحًا لمفتشي الوكالة إلى المنشآت النووية الإيرانية، بإستثناء محطة بوشهر النووية، مشيرًا إلى أن طبيعة أي وصول مستقبلي ستخضع لمفاوضات لاحقة، بعد أن تقدم إيران تقاريرها المقررة وفي توقيت تحدده هي. كما ربط عراقجي استمرار العمل بالاتفاق بعدم اتخاذ أي خطوات عدائية ضد إيران، بما في ذلك تفعيل آلية "سناب باك" لإعادة فرض العقوبات الأممية، مشددًا على أن "إظهار الأطراف الأخرى جدية في تصريحاتها حول الحل السياسي شرط لاستمرار التعاون". أما مدير الوكالة التابعة للأمم المتحدة، رافائيل غروسي، فأكد أن إطار التعاون يشمل كل المنشآت والبنى التحتية في إيران بدون استثناء، بما في ذلك مواقع تعرضت لضربات إسرائيلية وأميركية في حزيران/ يونيو الماضي وشدد على ضرورة تنفيذه فورًا. وهذا ما يعكس وجود تباينًا كبيرًا بعد الاتفاق الذي كان للقاهرة دورًا محوريًا في إبرامه غداة جهود مكثفة تمت على أكثر من صعيد.
دوليًا، أغلقت بولندا أربعة من مطاراتها الرئيسية، بعد أن أعلنت قواتها المسلحة إسقاط طائرات مسيّرة روسية دخلت مجالها الجوي "بشكل متكرر"، أثناء هجوم موسكو الواسع على أوكرانيا. وجاءت هذه الخطوة في أعقاب اختراق الطيران الروسي الأجواء البولندية، ما يعكس تصعيدًا جديدًا في الحرب الدائرة منذ أكثر من ثلاث سنوات. واستنكرت واشنطن الحادث، وعدّت الاختراق "انتهاكًا خطيرًا لأول مرة لدولة حليفة في "الناتو". فيما نفى الكرملين ما وصفه بـ"مزاعم قادة غربيين". يُشار إلى أن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أكد أن بلاده أسقطت ثلاث مسيّرات روسية على الأقل ورصدت ما لا يقل عن 19 انتهاكًا لمجالها الجوي.
وما يجري على الصعيدين المحلي والاقليمي كان مدار اهتمام الصحف الصادرة اليوم في عالمنا العربي. وهنا موجزٌ بأبرز ما ورد على صفحاتها:
كتبت صحيفة "الدستور" الأردنية عن الغارات الاسرائيلية على قطر والتي تؤكد أن "الولايات المتحدة لا شك متورطة بهذه الجريمة، إن لم تكن في التخطيط المسبق لها، فعلى الأقل أن قاعدة عديد العسكرية الأميركية المفترض أن تقوم بالواجب الضرورة: وهو حماية أمن قطر، ولا تسمح لقوات أجنبية في التطاول على السيادة القطرية"، مشددة على أن "عملية الاغتيال الفاشلة لقادة "حماس" ستشكل نقطة ومحطة إضافية للإخفاق وفشل حكومة نتنياهو على خلفية عملية 7 أكتوبر وتداعياتها سيدفع ثمنها نتنياهو نفسه ولن تمضي بدون نتائج وسيتحمل تبعاتها لاحقًا".
صحيفة "الأهرام" المصرية، من جهتها، اعتبرت أن هذه الضربة "تؤكد مجددًا أن نتنياهو غير راغب في أي اتفاق مع "حماس" فضلًا عن تعمده فتح جبهات جديدة لإبقاء الصراع متأججًا، كما في عدوانه على إيران في حزيران/ يونيو الماضي". وقالت: "ترامب ينكر علمه بالعدوان على دولة حليفة، وهو ما يعني أن إسرائيل تستخف به، ويعطي شرعية لقتل قادة "حماس"، وإن كان يأسف لفعل ذلك في قطر، وهو لا يدين العدوان مع ذلك، ويستخف بعقولنا بالقول إن ما سماه بالحادث يمكن أن يكون فرصة للسلام!"، على حدّ قولها.
وتحت عنوان "إسرائيل واستهداف الدوحة"، لفتت صحيفة "عكاظ" السعودية إلى أن "إسرائيل لم تنفذ العملية اعتباطًا أو دون تقدير لنتائجها، بل هي تعني ما فعلت، لكنها سابقة غير معهودة في النزاعات باستهداف طرف موجود لدى وسيط رئيسي في النزاع، هي فعلًا عملية تؤكد من خلالها أنها لا تريد أبدًا للمفاوضات أن تنجح"، مضيفة "عندما تقوم إسرائيل بهذه العربدة فإنها تُسقط ما تبقى من أكاذيبها بأنها طرف قابل للانخراط الجاد في مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، أو الوصول إلى سلام حقيقي مع دول المنطقة".
من جهتها، رأت صحيفة "النهار" اللبنانية أن "إسرائيل تكشف عن خطتها في المنطقة كلها، وهي تسعى لأن تكون لها اليد الطولى، مستفيدة من الدعم الأميركي وتغطية إدارته للحروب الإسرائيلية المستمرة، من دون أي ضغط لإنتاج تسويات لا في غزة، ولا سوريا ولا لبنان. وهذه الخطة التي بدأت تكرسها تل أبيب، ناجمة عن الاختلال في موازين القوى لصالحها"، جازمة بأن "الخطة الإسرائيلية باتت مكشوفة، فيما محور الممانعة في لبنان وفلسطين لا يزال يتحدث عن انتصارات، ويجدد رهاناته القائمة على أوهام القدرة الآن على هزيمة إسرائيل، فيما المطلوب قبل أي وقت الاعتراف بأن الاستمرار في السياسات ذاتها قد تؤدي إلى مزيد من الهزائم والانهيارات".
(رصد "عروبة 22")