يمكن تعريف مصطلح "المفهوم الأمني" في مجال إدارة الدول بأنه الإطار الفكري والمنهجي الذي تعتمد عليه المؤسسات السيادية والأمنية والعسكرية في دولة ما لضمان أمنها واستمرارها. وغالباً ما يتحول هذا الإطار إلى "عقيدة متوارثة" تنتقل من جيل إلى آخر داخل هذه المؤسسات، وتؤثر بشكل مباشر في صنع القرار السياسي والعسكري، وأحياناً تُقاوم المراجعة أو التحديث حتى عندما تتغير الظروف المحيطة.
في منطقة الشرق الأوسط، تبرز مفاهيم أمنية لدول محورية أثّرت بعمق في شكل الصراعات وعدم الاستقرار الإقليمي. ويأتي في مقدمة هذه المفاهيم كل من المفهوم الأمني الإيراني والمفهوم الأمني الإسرائيلي، بوصفهما نموذجين يستحقان التفحص والنقد التحليلي لما خلّفاه من تداعيات خطِرة على أمن المنطقة ككل.
ففي السنوات التي سبقت هجوم السابع من أكتوبر 2023 وما تلاه من تحولات إقليمية كبرى، بُني المفهوم الأمني الإيراني على ثلاثة أركان رئيسية: الاعتماد على الوكلاء من الفواعل ما دون الدول، والبرنامج النووي، والصواريخ البالستية. وقد كانت هذه الأركان الأساس الذي استندت إليه السياسة الإقليمية الإيرانية لعقود، حيث قدمت طهران دعماً واسعاً لمنظمات وميليشيات مسلحة مثل حماس، والجهاد الإسلامي، وحزب الله اللبناني، وعصائب أهل الحق، وفيلق بدر، والحوثيين، وغيرها من التشكيلات التي أدت أدواراً محورية في زعزعة الأمن الإقليمي بدلاً من تعزيزه.
غير أن التطورات الأخيرة كشفت حدود هذا المفهوم وفشله العملي. فعندما تعرض البرنامج النووي الإيراني لهجوم إسرائيلي- أمريكي، لم تتمكن هذه الميليشيات من ردع الهجوم أو منعه أو حتى تشتيته بشكل فعّال. كما أن اعتماد إيران استراتيجية "العتبة النووية" لم ينجح في تحقيق الردع المطلوب، بل تشير بعض التحليلات إلى أن الضربة مثّلت نهاية فعلية للحلم النووي الإيراني. ونتيجة لذلك، لم يبقَ من المفهوم الأمني الإيراني التقليدي اليوم سوى ركن الصواريخ البالستية، الذي أظهر قدراً من الفعالية خلال حرب الاثني عشر يوماً، إلا أنه يظل جزءاً من تصور أمني تقليدي ضيق لا يتعامل مع الأمن بوصفه مفهوماً شاملاً يضم الأمن الاقتصادي، والترابط الإقليمي، واحترام سيادة الجوار، وبناء المصالح المتبادلة.
أما المفهوم الأمني الإسرائيلي الجديد، الذي تبلور بوضوح بعد أكتوبر 2023، فلا يختلف كثيراً في جوهره عن نظيره الإيراني، إذ يقوم هذا المفهوم على منح إسرائيل حقاً مطلقاً في انتهاك سيادة الدول وتجاهل القانون الدولي متى ما اعتبرت أن هناك تهديداً لأمنها القومي. وقد تُرجم هذا التصور إلى أفعال ملموسة، من بينها الهجوم على دولة قطر في سبتمبر/أيلول 2025، والهجوم على مبنى وزارة الدفاع السورية في يوليو/تموز من العام نفسه. كما يقف هذا المفهوم وراء حالة الجمود الفكري والاستراتيجي الإسرائيلي، خاصة فيما يتعلق برفض التفكير الجدي في إنهاء الصراع مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين، إذ تُقيّد هذه العقلية أي رؤية بديلة للأمن المستدام.
إن دراسة المفهومين الأمنيين الإيراني والإسرائيلي تمثل مدخلاً أساسياً لفهم جذور عدم الاستقرار المزمن في الشرق الأوسط. والأهم من ذلك أن هذه الدراسة لا ينبغي أن تتوقف عند حدود النقد، بل يجب أن تمهّد الطريق لتطوير مفاهيم أمنية جديدة، مشتركة وشاملة، تقوم على التعاون الإقليمي، والتنمية الاقتصادية، واحترام السيادة، وتحقيق الأمن الحقيقي والرخاء لشعوب المنطقة كافة.
(الخليج الإماراتية)

