لم يكد يصل وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى قطر "لتطييب خاطرها" بعد الضربة الإسرائيليّة الأخيرة ولم يكن بعد انتهت مفاعيل البيان الختامي للقمة العربية الاسلامية الطارئة التي عُقدت في الدوحة لإعلان موقف موحد تجاه أفعال تل أبيب في المنطقة، حتى أعطى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أوامره لاجتياح مدينة غزة بريًا مُعمقًا الأزمة السياسية والانسانية على حدّ سواء وضاربًا عرض الحائط بكل المناشدات والانتقادات رافضًا منطق الهدنة ووقف النار والتوصل إلى اتفاق يؤدي إلى اطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين يستخدمهم كـ"كبش فداء" في حربه المفتوحة دون أي أفق، ما دفع فرنسا إلى المطالبة بـ"وضع حد لهذه الحملة التدميرية التي لم يُعد لها أي منطق عسكري".
فـ"المنطق" الوحيد الذي يقود نتنياهو هو "العظمة" وعدم وجود أي عواقب حقيقية لجرائمه المتمادية، والتي تبدأ عند ما يحصل في غزة والضفة الغربية ولكن لا يقف عندها، لاسيما انه بعد أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 دخلت المنطقة برمتها في مرحلة تصعيدية شديدة الخطورة مع إعلاء "أسهم" إسرائيل على حساب هذه الدول وأمنها وسيادتها. فتل أبيب التي تضع أي انتقاد لها في إطار "معاداة السامية" و"إعلاء شأن حركة "حماس" قصفت 7 دول حتى اليوم متباهية بذلك ومستغلة الدعم الأميركي الذي يتبني السردية الاسرائيليّة بحذافيرها. ففي تصريحه الأخير، دافع الرئيس دونالد ترامب عما يحصل في غزّة واصفًا الاجتياج البري بـ"حالة دفاع"، محذرًا بشدة "حماس" من محاولة استخدام الرهائن دروعًا بشرية "فإذا فعلت ذلك فستكون في ورطة كبيرة"، وجاء ذلك خلال حديثه مع الصحافيين في أثناء مغادرته البيت الأبيض متوجهًا إلى بريطانيا في زيارة رسمية.
هذه الاتهامات ردّت عليها الحركة الفلسطينية واضعة إياها في إطار "الانحياز السافر للدعاية الصهيونية، وتجسيدٌ صارخ لازدواجية المعايير، التي تتغاضى عن جريمة التطهير العرقي، واستشهاد نحو 65 ألفًا من المدنيين الأبرياء في قطاع غزة، معظمهم من النساء والأطفال"، معلنة بشكل واضح بأن "مجرم الحرب نتنياهو يتحمّل كامل المسؤولية عن حياة أسراه في قطاع غزة، كما تتحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مباشرة عن تصعيد حرب الإبادة الوحشية في القطاع، بفعل الدعم وسياسة التضليل التي تنتهجها، للتغطية على جرائم حرب الاحتلال التي يشهدها العالم منذ قرابة العامين". هذا الرد والرد المقابل يُعقد أي فرصة للمباحثات المتوقفة اصلًا، وحتى قبل الضربة الاسرائيليّة على الدوحة، وذلك حين قررت اسرائيل عدم الرد على موافقة "حماس" على الصفقة الجزئية بل بادرت إلى الاعلان عن تصعيد عسكري جديد بدأ بنسف الأبراج السكنية والمنازل ومراكز الايواء ودعوات متتالية للسكان للنزوح إلى مناطق الجنوب قبل البدء رسميًا بالاجتياح البري "البربري" لمدينة غزة والذي يضع حياة الالاف من الفلسطينيين في خطر.
وحركة النزوح التي ازدادت وتيرتها في الساعات الأخيرة جاءت بعدما "تمسك" السكان بمدينة غزة حتى الرمق الأخير قبل أن يجبروا على تركها امام كثافة القصف الذي لا يتوقف بينما سجل عداد الضحايا استشهاد 106 فلسطينيين بنيران قوات الاحتلال، أمس الثلاثاء، منهم 91 في مدينة غزة. في المقابل، أطلق المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة فولكر تورك واحدة من أقوى الإدانات منذ بدء الحرب، مطالباً إسرائيل بـ"وقف المجزرة". وأكد، في بيان له من جنيف، أن "الأدلة تتراكم على وقوع جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وربما أكثر". ويأتي هذا بالتزامن مع إعلان لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة بأن "السلطات الإسرائيلية وقوات الأمن ارتكبت أربعة من أفعال الإبادة الجماعية الخمسة" التي حددتها "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية"، وهي القتل المتعمد لآلاف المدنيين، والتسبب بأذى جسدي ونفسي خطير، وفرض ظروف معيشية قاسية تهدف إلى التدمير الجماعي ومنع الولادات على نحوٍ متعمد.
وعلى الرغم من الرفض الإسرائيلي الفوري لما ورد في التقرير ومطالبتها بحلّ اللجنة الذي عملت عليه، إلا أن الخلاصات الموثقة التي تم التوصل إليها تعتبر دليلًا دامغًا على جرائم اسرائيل الوحشية وبما لا يحتمل الشك. وهذه هي المرة الأولى التي تتهم فيها لجنة تحقيق أممية إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية. وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنه "لا يمكن قبول ما يجري في غزّة من الناحية الأخلاقية والسياسية والقانونية"، وأنه سيبلغ المحكمة الجنائية الدولية بشأن فداحة الأوضاع في غزة والضفة الغربية. بينما شدّد الاتحاد الأوروبي على ضرورة وقف العملية العسكرية فورًا، محذرًا من كارثة إنسانية لا يمكن احتواؤها. وجدّد بيان المجلس الأوروبي الدعوة إلى رفع الحصار عن القطاع وفتح الممرات الإنسانية من دون عوائق. من جهتها، أعلنت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية أن مفوضي الاتحاد سيوافقون اليوم الأربعاء، على فرض عقوبات جديدة على إسرائيل، بما يشمل إلغاء امتيازات ضمن اتفاقية الشراكة التجارية بين الجانبين.
وتواجه اسرائيل بإعتراف رئيس وزرائها عزلة متزايدة ولكنه يضعها في إطار "الدوافع السياسية لا الاقتصادية" وذلك بعد اتخاذ العديد من الدول الخطوات العقابية نتيجة الحرب المستمرة في غزّة، وأبرزها إسبانيا التي دان ملكها فيليبي السادس، خلال زيارته مصر، "المعاناة التي تفوق الوصف لمئات آلاف الأبرياء" في غزة و"الأزمة الإنسانية التي لا تحتمل". وأصبحت الحكومة الإسبانية التي اعترفت بدولة فلسطين في أيار/ مايو من العام الماضي، إلى جانب آيرلندا والنرويج، واحدة من أكثر الدول رفضًا وانتقادًا لحكومة نتنياهو وممارساتها. ولكن نتنياهو، الذي بشر بـ "سوبر اسبرطة"، في سياق تبريره لضرورة اعتماد اسرائيل على قدراتها الذاتية يواجه المزيد من الانتقادات الداخلية والغضب الشعبي نتيجة عدم ابرام صفقة فورًا لاستعادة الرهائن إلى جانب تداعيات حرب الابادة على الاقتصاد الاسرائيلي بشكل عام.
و"هتلر" كما وصفه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، في معرض المقارنة بين نتنياهو والزعيم النازي أدولف هتلر، متوقعًا له المصير نفسه، لا يهتم بكل بيانات الشجب والخطوات المتخذة لأنها، حتى اللحظة، لا ترقى إلى مستوى ما يجري ميدانيًا. فمن غزة إلى الضفة الغربية واقع الاحتلال واحد بعدما قررت تل أبيب فرض المزيد من خطوات العزلة على وقع مشاريع الاستيطان الآخذة بالتوسع بشكل مخيف. فأمس اقتحمت القوات الاسرائيلية رام الله والخليل ونابلس وحطمت مركبات للفلسطينيين عند مدخل مخيم الفوار. وقد تصاعدت الحملة في الآونة الاخيرة بينما تم "تزنير" الضفة ببوابات جديدة فصلت القرى الفلسطينية عن بعضها بهدف فرض واقع جديد طويل الأمد والضغط على السكان من جميع النواحي. وبحسب احصائيات "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان"، فإن قوات الاحتلال قامت بإغلاق مداخل القرى والمدن الفلسطينية بأكثر من 900 بوابة عسكرية، بالإضافة لاغلاق عشرات المناطق الأخرى بالسواتر والمكعبات الاسمنتية أو وضع حواجز عسكرية.
في سياق متصل، حطّ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في قطر بعد اسرائيل، في زيارة سريعة، التقى خلالها أمير الدولة تميم بن حمد آل ثاني مع رئيس الوزراء وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إذ جرى بحث لـ"تداعيات الهجوم الإسرائيلي الغادر على الدوحة، ومستقبل الجهود الدبلوماسية المشتركة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وإطلاق سراح الرهائن والأسرى، وخفض التصعيد بالمنطقة"، وفق بيان صادر عن الديوان الأميري. في حين أعلن روبيو عن "شراكة وثيقة مع القطريين"، لافتًا إلى وجود "اتفاقية تعاون دفاعي معزّزة، يتم العمل عليها، ونحن على وشك وضع اللمسات النهائية". وهذه الزيارة لا يمكن فصلها عن الهجوم الاسرائيلي الاخير على الدوحة ومحاولة واشنطن "التبرؤ" من معرفتها بالضربة والحدّ من تداعياتها، خاصة أن الدوحة تعتبر شريكًا استراتيجيًا على عدة أصعدة ووسيطًا أساسيًا في مفاوضات وقف النار في غزة.
ومن قطر إلى اليمن التي كانت أمس على موعد جديد مع الضربات الاسرائيليّة حيث تعرّض ميناء الحديدة لغارات مكثفة وذلك بعد ساعات من إنذار بإخلائه. وقالت وسائل إعلام إسرائيليّة ويمنية إن 12 غارة جوية استهدفت 3 أرصفة في الميناء المذكور، فيما أعلن المتحدث العسكري باسم جماعة أنصار الله (الحوثيين) يحيى سريع أن الدفاعات الجوية "أربكت طائرات العدو وأجبرت بعض تشكيلاتها على مغادرة الأجواء". أما وزير الدفاع يسرائيل كاتس، فقد توعّد بمواصلة الضربات ودفع ما أسماها "أثمانًا موجعة عن كل محاولة لاستهداف إسرائيل". وكانت الإذاعة الإسرائيلية نقلت عن مصادر أمنية إشارتها إلى أن الضربات جاءت لمنع الحوثيين من إعادة تأهيل ميناء الحديدة الذي "يُستَخدم لنقل أسلحة إيرانية توجّه لعمليات ضد إسرائيل وحلفائها، وأن الهجوم الذي استهدف بنى تحتية عسكرية تابعة للحوثيين هدفه مواصلة الحصار البحري المفروض على الجماعة منذ الأشهر الأخيرة".
في الشأن السوري الداخلي، بدا لافتًا الاعلان عن خريطة طريق "سورية - أردنية – أميركية" لحل الأزمة في السويداء، والذي أتى عقب المباحثات الثلاثية في قصر "تشرين" الذي ضم وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني والمبعوث الأميركي الخاص توم برّاك ونائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي. وستكون "خارطة الطريق" هذه تحت المجهر خاصة أن كل الاتفاقيات السابقة لم تصمد طويلًا. في غضون ذلك، ذكرت مصادر مطلعة لوكالة "رويترز" أن سوريا تُسرع المحادثات مع إسرائيل، تحت ضغط أميركي، للتوصل إلى اتفاق أمني تأمل في أن يؤدي إلى استعادة الأراضي التي سيطرت عليها إسرائيل في الآونة الأخيرة، لكنه لن يرقى إلى مستوى معاهدة سلام شاملة. ونقلت الوكالة عن أربعة مصادر إشارتها إلى إن واشنطن تضغط من أجل إحراز تقدم كافٍ بحلول الوقت الذي يجتمع فيه زعماء العالم في نيويورك نهاية الشهر لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو ما سيتيح للرئيس الأميركي الاعلان عن "انفراجة" يضيفها إلى سجله الحافل، كما يقول، خصوصًا انه يطمح للحصول على جائزة "نوبل" للسلام.
ما يجري اقليميًا ومحليًا، لاسيما على صعيد المنطقة، يحظى باهتمام الصحف العربية والتي ركزت في عناوينها ومقالاتها على التالي:
رأت صحيفة "النهار" اللبنانية أن "جلّ تركيز ترامب يتمحور في الوقت الراهن على السعي إلى ترميم الثقة التي تضررت مع قطر ودول الخليج عمومًا من جراء العملية الإسرائيلية، والعمل أيضًا على إقناع نتنياهو "بتوخي الحذر" إزاء هجمات مماثلة في المستقبل"، مشيرة إلى" انعدام أي مؤشر على اعتزام واشنطن استئناف جهود وقف النار قبل انجاز عملية احتلال مدينة غزة، التي يريد ترامب أن تنتهي بسرعة وقبل نهاية العام، وأن لا تمتد إلى العام المقبل الذي سيشهد انتخابات منتصف الولاية في الولايات المتحدة".
صحيفة "الغد" الأردنية اعتبرت أن "قطر نجحت في أن تجعل حادثة الاعتداء الآثم عليها، "نقطة حرجة" لمسار التطرف الصهيوني لكيان الاحتلال ". ولكنها حذّرت من أنه "بعد انتهاء قمة الدوحة، تواصل تل أبيب سياساتها الخطيرة التي تضع المنطقة على شفا نزاع كبير، وفوضى قاتلة، فتنشر الموت بالمجان، وتتصرف كما لو أنها لا ترى أي وجود للعالمين؛ العربي والإسلامي. فتواصل اقتراف مذبحة غزة تحت أبصار العالم، وتعتدي على سورية ولبنان وتحتل أراضيهما، بينما توزع تحذيرات لليمنيين بإخلاء مناطق معينة تمهيدا لقصفها وتسويتها بالأرض. هذا هو الرد الصهيوني على قرارات القمة، فما هي خطواتنا لكي نردع هذا الوحش؟"، وفق تساؤلاتها.
بدورها، لفتت صحيفة "الراي" الكويتية إلى أنه "لم يعد الشعور بالإحباط لدى ترامب كافيًا للحفاظ على الثقة بمصداقيته، ومصداقية العلاقات الأمنية التي تربط بين الولايات المتحدة وقطر، أو أي دولة عربية أخرى، ناهيك عن تأزم الثقة بين ترامب والاتحاد الأوروبي، بسبب تفرده في محاولته عقد صفقة مع روسيا لوقف الحرب الأوكرانية"، مشددة على أن "مصداقية ترامب لابد وأنها اهتزت على المستوى العالمي بعد غارة الكيان الصهيوني على قطر. فالسماح لحليفه بشن غارة على وفد مفاوض، وعلى أرض دولة مضيفة للتفاوض، وتقيم علاقات أمنية مع الولايات المتحدة، هو عمل غادر، وقح، يخرق بروتوكولات الأمم المتحدة، ويضرب بها عرض الحائط، ويجعل من عقد صفقات مع الرئيس ترامب أمرًا يدخل تحت طائلة المغامرات الخطيرة الفاشلة".
من جانبها، أشارت صحيفة "الوطن" البحرينية إلى أنه "قد تم تسويق اتفاقات إبراهيم على أنها بداية مرحلة جديدة من التعاون الإقليمي. لكن الهجوم على دولة تلعب دور الوسيط يرسل إشارة معاكسة تمامًا: حتى الوسيط قد يُستهدف، إن لم يُرضِ الرغبة السياسية في لحظة ما"، مؤكدة أن "المسألة لم تعد مرتبطة بالدوحة وحدها، بل بمفهوم السيادة المشروطة. اليوم منزل، وغداً قرار. وإذا بقيت ردود الأفعال خجولة، فإننا بصدد هندسة شرق أوسط جديد، لا عبر المؤتمرات، بل عبر الصواريخ الذكية"، على حدّ قولها.
(رصد "عروبة 22")