اتّضح أنّ ما تقوم به إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 حتى اليوم، ويبدو أنّه مستمرّ، يتجاوز مجرّد الردّ على صدمة عملية "طوفان الأقصى" وتداعياتها على الداخل الإسرائيلي، إلى محاولة تنفيذ مشاريع وخطط قديمة كامنة في ذهنيّة الزمرة الحاكمة في إسرائيل. هذه المشاريع يحكمها منطق أمني - عسكري مغلّف بمسارٍ اقتصادي - تنموي، ولا ترى مستقبلًا لإسرائيل خارج معادلة "حقّ القوة"، ضاربةً عرض الحائط بمصالح الحلفاء والأصدقاء، كما تُغفل المخاطر المترتّبة على نفسها داخليًا وخارجيًا جرّاء هذه السياسة الأحادية البُعد.
منذ اندلاع حرب أكتوبر/تشرين الأول وخلالها، بدا المشهد وكأنّه سباق بين قطار القوة والحرب، وقطار السلام والاستقرار. فقد كانت الولايات المتحدة في عهد إدارة جو بايدن التي قدّمت لإسرائيل دعمًا غير مسبوق، تراهن على الرَّغم من ذلك على قطار السلام، معتقدةً أنّه سينتصر في النهاية، وأنّ الحرب ستُثمر بعد أن تُلجَم إيران وحلفاؤها، وتقترب المنطقة من انتزاع ورقة فلسطين من يد طهران و"محور الممانعة" بأسره.
وصول ترامب إلى السلطة ترافق مع تشكيل إدارة مفصّلة على مقاسه تمنح إسرائيل عمليًا شيكًا على بياض
لكن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تغيّر المسار. إذ تخلّت الولايات المتحدة عن قطار السلام، والتحقت بنتنياهو لتوفّر له الغطاء السياسي والعسكري، حتى انخرطت معه في عملية عسكرية ضدّ إيران كانت واشنطن قد تجنّبتها طويلًا. ولم يقتصر التماهي الأميركي مع نتنياهو على الملف الإيراني، بل امتدّ إلى غزّة وما بعدها، بحيث زار وزير الخارجية الأميركي إسرائيل مُلمّحًا إلى إمكانيّة القبول بضمّ الضفة الغربية، قبل أن تجفَّ دماء ضحايا عملية الدوحة، التي تُعتبر قطر ـ وفق التعبير الأميركي ـ الحليف الاستراتيجي لواشنطن. إلى ذلك، لم تراجع إدارة ترامب موقفها من المبادرة السعودية - الفرنسية لحلّ الدولتَيْن والاعتراف بالدولة الفلسطينية، بل تولّت بنفسها مهمّة التهديد والوعيد للمؤيّدين والداعين لهذه التسوية، معرّضةً علاقتها مع السعودية الحليف الأهم بعد إسرائيل في المنطقة للاهتزاز والتصدّع.
يجدر التذكير بأنّ وصول ترامب إلى السلطة ترافق مع تشكيل إدارة تكاد تكون مفصّلةً على مقاسه تمنح إسرائيل عمليًا شيكًا على بياض، وتحتكر صناعة القرار بفعل هيمنة الأغلبية عبر الوسائل الديموقراطية. غير أنّ ذلك لا يُلغي وجود أصواتٍ داخل الحزب الجمهوري نفسه تعارض هذه السياسة، فضلًا عن غالبيةٍ من الديموقراطيين والمستقلّين الذين، على الرَّغم من تعاطفهم التاريخي مع إسرائيل، يرفضون بشدّة ممارساتها والدعم الأعمى الذي تُقدّمه لها إدارة ترامب.
النواة الصلبة للعالم العربي هي الأكثر تضرّرًا من الهمجية الإسرائيلية وبمقدورها تشكيل تحالف أو جبهة موحّدة
وكما هو الحال في الولايات المتحدة، كذلك في إسرائيل، لا يمكن إغفال حجم الانقسامات والخلافات العميقة بين القوى السياسية. إلّا أنّ القرار النهائي يظلّ بيد حكومة نتنياهو المنتخبة ديموقراطيًا، والتي لن تُزاحَ من السلطة إلّا عبر الوسائل الديموقراطية نفسها.
كلّ ما سبق يهدف الى القول إنّ العلّة وراء كل ما جرى وسيجري في المنطقة يعود إلى السياسة الأميركية الضبابيّة، التي تتّسم بعدم الوضوح. صحيح أنّ نتنياهو هو اللاعب المباشر، لكنّ الغياب الأميركي المُتعمّد عن ضبط إيقاع الأحداث ووضع حدٍّ لسياسات إسرائيل، يصل أحيانًا إلى حدّ التطابق مع رؤية نتنياهو وأهدافه.
ويَطرح هذا الواقع إشكاليةً كبرى: كيف يمكن التعامل مع وضعٍ تتعقّد ملامحه أكثر فأكثر في ظلّ غياب البدائل الفعلية؟ فالقوى الكبرى الأخرى، كالصين وروسيا، تبدو عاجزةً عن لعب دورٍ موازن، لانشغالها إمّا بمواجهة الولايات المتحدة أو بمحاولات احتوائها، فيما تكتفي بتحصين مواقعها عبر تكتّلات دولية لا ترقى بعد إلى مستوى الحلول البديلة القادرة على تغيير مسار الأحداث.
العلاقة الأميركية مع دول الخليج تشظّت بفعل عملية الدوحة الهستيرية
السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت القمّة الإسلامية - العربية التي انعقدت ردًّا على الاعتداء على سيادة قطر وأجمعت على إدانة الاعتداء وفعّلت آليات الدفاع الخليجية، قادرة على مواجهة هذا الواقع وهي التي تجمع سبعًا وخمسين دولةً تتبايَنُ مواقفها وخلفيّاتها حول قضايا كثيرة.
الإجابة لا تكمن في القمّة بحدّ ذاتها، بل في الدور الذي يمكن أن تضطّلع به النواة الصلبة للعالم العربي، وهي الأكثر تضرّرًا من الهمجية الإسرائيلية المُتمادية. بمقدور هذه النواة الصلبة المؤلفة من دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والمغرب، وبات بالإمكان ضمّ لبنان وسوريا إليها إلى حدٍّ ما، تشكيل تحالف أو جبهة موحّدة. قوة هذا التحالف لا تستند إلى السلاح العسكري، بل إلى ما تُمثّله وتختزنه هذه الدول مجتمعةً من أوراق مصالح حيوية مع الولايات المتحدة يمكن استخدامها للضغط عليها عبر طرح مشروع سلامٍ وأمنٍ إقليميّ متكامل يصعب على واشنطن تجاهله.
ما من ردّ ناجع على عملية الدوحة إلّا بمشروع سلام إقليميّ متكامل
هذا المشروع، بعكس السياسة الأميركية القائمة على تجزئة الأزمات والبحث عن حلولٍ آنية، يضع أمام الأميركيين رؤية موحّدة ومتماسكة وتفصيلية لمآلات نزاعات المنطقة وهمومها، من غزّة والضفة الغربية، إلى سوريا الجديدة الواقعة في قبضة مزاجيّة نتنياهو ومشاريعه المُزعزعة للاستقرار، إلى لبنان الذي لا يزال أسير ما تبقّى من سطوة "حزب الله" وإيران. مشروعٌ يتخطّى دعوات الخروج من الاتفاقيات والمقاطعة وكلّها مسارات سبق تجربتها وما جلبت إلّا الكوارث. الردّ بالهجوم من جديدٍ على السلام لحشر ترامب ونتنياهو معًا وتعرية كلّ مقولاتهما وممارساتهما.
الأهم في مشروع السلام والأمن الإقليمي هو إعادة رسم العلاقة الأميركية مع دول الخليج، التي لا شكّ أنّها تشظّت بفعل عملية الدوحة الهستيرية ونتائجها السياسية والأمنية ومستقبل التعاون الاقتصادي. وما لا يقلّ أهميةً عن ذلك كلّه، هو إعادة صياغة الاتفاقات الأمنية والدفاعية ودور القواعد العسكرية في حماية أمن دول المنطقة.
ما من ردٍّ ناجعٍ على عملية الدوحة إلّا بمشروع سلامٍ إقليميّ متكامل مُوجّهٍ إلى الأميركيين، وإلى ترامب شخصيًا، لعلّهم يهتدون!.
(خاص "عروبة 22")

