صحافة

بين "وهم الدولتين" ووهم "إسرائيل الكبرى"

محمد عبد الشفيع عيسى

المشاركة
بين

غريبٌ عجيبٌ ما يحدث هذه الأيام من طرف المتحدثين باسم حكومة الكيان الإسرائيلي، بالكلام وبالفعل كليهما. ردّا على ما يُنادي به كثيرون على المستويين العربي والعالمي بتطبيق ما يُسمى (حلّ الدولتين): دولة فلسطينية إلى جانب تلك الإسرائيلية، فإنّ من المتحدثين الإسرائيليين مَن يقول إنما هو "وَهْمُ الدولتين". وفي نفس الوقت يقومون باحتلال غزة (أو إعادة احتلالها)، وليس هذا فقط، بل بدأوا بالقول بما يُسمّى ضمّ الضفة الغربية من نهر الأردن، الفلسطينية الخالصة، إلى جانب العمل الفعلي من أجل ذلك الضمّ بدءًا من استخدام آلة العنف المجنونة ضدّ أعمال المقاومة أو بوادرها، كما في جنين ونابلس وغيرهما.

وعلى سبيل "الحرب النفسية"، يقوم بعضُ كبارِ المتحدثين باسم إسرائيل بجمع ما يحدثونه في غزة مع ما يحدثونه وما سوف يحدثونه في "الضفة الغربية" ليعيدوا القول الأسطوري التوراتي أو التلمودي القديم حول ما يسمونه (إسرائيل الكبرى)...! تلكَ التي تضمُّ، في زعمِهم، فلسطينَ التاريخيةَ ومناطقَ متفرقةً من الجوار العربي كلِّه بما فيه مصر وشبه الجزيرة العربية!! هكذا إذن تتجاورُ روايتان إسرائيليّتان غريبتان عجيبتان: إسرائيل الكبرى تلك، جنبًا إلى جنب نفي إمكانية إقامة "دولةٍ فلسطينية"...! فما الخبر..؟

وفى البداية، كيف تسنّى تحويل "حلمِ تيودور هرتزل" بإقامةِ دولةٍ يهوديةٍ، الذى عبّر عنه في "المؤتمرِ اليهودي الأول" المعقود في مدينة بازل السويسرية بين 29 و31 أغسطس 1897 — تحويله إلى "وعدٍ بريطاني" رسمي: (وعدُ بلفور عام 1917). ونذكّرُ هنا بما قاله جمال عبد الناصر في رسالتِه إلى الرئيسِ الأمريكي الشابِّ جون كينيدي في 20 فبراير 1961 فى بدايات ولايته: (لقد أعطى مَن لا يملكُ وعدًا لمن لا يستحقّ، واستطاع من لا يملك ومن لا يستحقّ أن يسلبا صاحب الحقِّ الأصيلِ حقّه..). هكذا جرى تحويلُ "الحلم" إلى "وعد"، حتى تحول ذلك أخيرًا إلى كيانٍ سياسي آخذٍ في التوسع، ووصلَ الأمرُ بأصحابِه من التبجّح - بعد عدوانِ واحتلالات يونيو 1967 - إلى توهّم تحويل الحلم والوعد والكيان إلى إمبراطوريةٍ صهيونيةٍ كاملةٍ، لا يتورّعون عن تسمّيتها "إسرائيل الكبرى"، ويعتبرونها مسؤولًا عندهم كبيرًا (رسالةٌ تاريخيةٌ وروحيةٌ..!) يحملها على كاهله. ذلك ينطبقُ عليه القول الشائع باللهجةِ العربيةِ في مصر: (اللي اختشوا ماتوا..)! وحقًّا، كما يذكر قولٌ "شبهُ عامّي» آخر، في صيغة سؤالٍ استنكاري: (أين حُمرةُ الخجل..؟).

هذا كلُّه، بينما تحوّلت موازين القوى الدولية والإقليمية الحالية دون تقدم الفلسطيني ليأخذ حقّه "التاريخي الأصيلَ"، دون وجلٍ ... فها هي "القوةُ العظمىُ الوحيدة" في الوقت الراهن تقدم المال والسلاح - وهي "الإمبرياليةُ الكبرى" - إلى "إمبريالية صغرى" يقالُ لها "شرقُ أوسطية"، فتمنعُ صاحب الحقِّ من استرداد حقّه المسلوب.. بل وتسعى إلى ما هو أكثرُ من ذلك فيما نشاهده ونراهُ بعينِ الرأي كلّ يوم هنا وهناك..! ويتمُّ ذلك تحت غطاءٍ من "الخداعِ الاستراتيجي"، أو التضليل بأدوات الدعاية، إلى جانب (الفعل الحي)، بدعم من "الإمبراطورية الأمريكية المعسكرة!".

كلُّ ذلك، وأكاد أزعمُ أن "التاريخ اليهودي" الذي يُشارُ إليه بالبنان من طرف البعض - إن صحّ التعبير - لم يكن مسرحُهُ التاريخي الأصلي في فلسطين ولكن في "اليمن".! وقد كدتُ أميلُ إلى ذلك ميلا، وبخاصةٍ فى ضوءِ مستكشفاتٍ وحفريات الآثار الشاخصة في اليمن؛ بينما لا يتوفّر ما يشيرُ البتّة إلى وجودٍ يهودي سابقٍ في فلسطين. ولقد حاول "وزير الحرب الإسرائيلي" الأسبق- فى زمن عدوان 1967- موشيه ديان، حين عمل على حفر الآثار في فلسطين بعد 1967، أن يجدَ شيئًا - أي شيء - يدلّ على وجودٍ يهودي سابقٍ في فلسطين، فلم يجد..!

بينما اليمنُ تذخرُ، وكانت تذخرُ دائمًا، بالشواهد الآثاريةِالدالة على الوجود اليهودي، برغم النهب المنظّم لآثاره العظيمة طوال حقب من الزمان، مقابل الترويج لوهم زائل عن (إسرائيلَ الكبرى)! وما يزالُ (حسنو النية) - إن افترضنا ذلك - يتكلّمون عن "حلِّ الدولتين": فلسطينيةٍ وإسرائيليةٍ، بينما يقوم أنصارُ "الإمبراطورية الوهمية" بنزع ما يدلُّ على تاريخيةِ فلسطين بالقمع إلى حدود الاحتلال، وبالعنف إلى حدِّ ممارسة "حرب الإبادة". وينطوي حديث "حلّ الدولتين" على اعترافٍ بالكيان الإسرائيلي، بمعنى ما، ولكن إلى أي حدودٍ لا نعرف؛ بينما لا يضمنُ اعترافًا بدولةٍ فلسطينيةٍ حقيقيةٍ من حيثِ الحدود الجغرافية، ومن حيث نطاق الاستقلالية الفعلية اقتصاديًا وعسكريًا وغير ذلك..! فأي حلٍّ للدولتين إذن، إن لم يكن، كما يذكرُ البعضُ، "وهم الدولتين؟".

فهل يتجاورُ "وهم الدولتين" مع روايةِ "إسرائيل الكبرى" في تحالُفٍ فكري وسياسي من أجلِ حجب الحقِّ الفلسطيني على كلِّ حال؟ ومع ذلك، يعترفُ جُلُّ الرسميين العرب بكيانٍ إسرائيلي، ولو في حدود عام 1967، فهل آن أوان اعتراف (إسرائيل) بدولةٍ فلسطينيةٍ مستقلةٍ حقًا..؟ وهل آن لليمين الصهيوني المتطرِّف أن يتخلّى عن "وهم إسرائيل الكبرى"، إن كان ذلك ممكنًا، ليسهم فى تحويل ما يعتبره "ووهم الدولتين" إلى حلٍّ فعلي يضمن لدولة فلسطين المستقلةِ حياةً حقيقيةً، ولو من خلال إعادةِ تفعيل "قرارِ التقسيم" الصادر عن "الجمعية العامة للأمم المتحدة" في 29 نوفمبر 1947، من خلال إقامة دولتين: عربية ويهودية..؟ وهل ما زالَ ذلك ممكنًا أصلًا..؟

ولكن العكسَ هو ما يجري على قدمٍ وساقٍ حقًّا. إذ في سبيل ذلك "الوهم المتوهّم" - إن صحّ التعبير - تقوم حكومةُ الكيانِ الإسرائيلي بالعمل على التمهيد لتحقيق "الرواية الوهمية لإسرائيل الكبرى" مقابلَ محاولة نزع الشرعية السياسية والمشروعية القانونية عما يُسمّى بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومن يمثّلها رسميًا؛ هذا من جهة. ومن جهةٍ أخرى، محاولةُ شطر "الضفة الغربية" إلى شطرين لا يلتقيان، من خلال المشروعِ الصهيوني الاستيطاني المسمّى عندهم E1، مع محاولة فصل القدس الشرقية عن "الضفة" تمامًا، مع العملِ أيضًا على تهجير بدوِ النقب، كحلمٍ صهيوني قديم. غيرَ أنَّ التاريخَ يعلّمنا أن "الوهم الكبير" - كوهم "إسرائيلَ الكبرى!" - إنما يوردُ أصحابه موارد التهلكةِ المؤكّدةِ، ولو بعد حين. ولننتظر حكمَ التاريخِ، وهو قريب..!

(الشروق المصرية)

يتم التصفح الآن