حتى تصل إلى "خطاب إسبارطة" الذي ألقاه بنيامين نتنياهو في اجتماع المحاسبين الماليين الأسبوع الماضي، وقاموسه الجديد واقتباساته من التاريخ وخروجه المفاجئ عن النص، وقياس التحولات التي نشأت على هذا الخطاب خلال السنتين الأخيرتين، عليك أن تعبر حقلاً مترامياً من الخطابات التي انتشرت بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب الاستعماري في ما يشبه قاموساً موحداً يمتلك ثوابته وأفكاره ورموزه... أو أن تختار، لاختصار الطريق، أمثلة حية ما زالت تسعى على أقدامها، أمثلة يمكن مشاهدتها وهي تحاول التوازن في الفوضى التي تسببت بها حروب نتنياهو، وصدمتها أفكار الفاشية الصهيونية الخارجة عن السيطرة.
كأن تذهب إلى بدايات الحرب الروسية - الأوكرانية، عندما كان فولوديمير زيلينسكي "أيقونة " تتجول في عواصم أوروبا مثل "عرض ثوري"، وتدخل "الأيقونة" إلى الكونغرس كـ"مخلّص"، وسط وقوف النواب من الحزبين وتصفيقهم، حين كان يقدم، بملابس عسكرية متقشفة، وعوداً لتمرير فاتورة أكلافه المالية والعسكرية الباهظة، وعوداً مغرية تنبع من فهمه العميق لثقافة النظام الغربي ومعاييره. لا يخلو الرجل من ذكاء وقدرة على مخاطبة الوعي الغربي، كان أحد وعوده المبكرة "إقامة إسرائيل كبرى في أوروبا"، إسرائيل أوروبية على حدود روسيا تستمد نموذجها من "الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" ويستمد جيشها المنتصر قيمه من "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، كان ذلك يبدو مغرياً تماماً لحضارة بيضاء تواجه مجاميع همجية متوحشة، وكان متناسباً بشكل مثالي مع التكلفة ومع ابتسامات أورسولا فون دير لاين ويدها التي تدفعه برعاية أمومية في مؤتمرات الاتحاد الأوروبي واجتماعات الناتو.
الوعد "بإسرائيل كبيرة في أوروبا" لم يكن بعيداً، إن لم يكن إلهاماً مستمداً من رسالة أورسولا فون دير لاين نفسها في الذكرى الـ75 لاستقلال إسرائيل: "قبل 75 عاماً تحقق حلم بالتزامن مع يوم الاستقلال الإسرائيلي. اليوم نحتفل بالديموقراطية النابضة بالحياة في قلب الشرق الأوسط، أنتم حرفياً جعلتم الصحراء تتفتح".
يمكن أيضاً استحضار تصريحها بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عندما زارت مستوطنة "كفار عزة" في الغلاف برفقة روبرتا ميتسولا رئيسة البرلمان الأوروبي. ميتسولا ألقت بدورها خطاباً متملقاً في الكنيست أمام بنغفير وسموترتش يبدو الآن تجسيداً للعار الديبلوماسي. الخطاب استعرضناه في مقالة منفصلة في أيار/ مايو 2022 في "النهار" تحت عنوان "حالة روبرتا ميتسولا". "أعلم أن رد فعل إسرائيل سيظهر جوهرها الديموقراطي"، تقول فون دير لاين غير بعيد عن إقلاع ماكينة الإبادة في غزة.
الآن يصعب اعتبار "وعد زيلنسكي" مثيراً للحماسة وقادراً على اجتذاب الأموال وحتى التعاطف. تبدو إسرائيل أقرب إلى العبء معزولة ومكلفة ومتوحشة ومعرضة للعقوبات. كما تبدد اليقين في توقع فون دير لاين حول الرد الديموقراطي لإسرائيل. الحديث يجري عن "إبادة جماعية" ليس باستطاعة رئيسة الاتحاد الأوروبي تغطيتها أو القفز عنها أو تعويمها كما حاولت خلال السنتين الماضيتين في مواجهة الشارع الغاضب، وعليها أن تتحدث، على مضض أو كمن يتجرع السم، عن عقوبات على إسرائيل.
هناك نماذج كثيرة يمكن استعراضها حول القاموس الغربي المتعلق بـ"إسرائيل"، ولكن هذان النموذجان يقدمان فكرة حية عن نفوذ الإرشادات الصهيونية، وتحكمها بالرواية السائدة للصراع الفلسطيني - الصهيوني، وارتباك هذا الخطاب وتعثره أمام المحرقة والحقائق التي يعرفها ويتداولها الشارع الآن. اللافت هنا هو الانزياح الذي ظهر في "خطاب إسبارطة". أحد الصحافيين الإسرائيليين شبهه بخطاب تشرتشل الشهير "ليس لدي ما أقدمه سوى الدم والدموع والعرق". الخروج المفاجئ عن النص المحفوظ المتفق عليه، والذي سيفاقم الارتباك والفوضى المتدفقة من إسرائيل نحو العالم.
خطاب خارج سياق الرجل تماماً، فارغ من الجيش الأخلاقي والديموقراطية وصراع الحضارة في مواجهة البربرية، بدا أقرب إلى رثاء طويل لقاموس لم يعد صالحاً للاستخدام، وأقرب إلى خاتمة مريرة وتراجيدية للزمن الذي كان يمكن لأمثال زيلنسكي وفون دير لاين وغراهام ليندسي وميتسولا... الاتكاء عليه. خطاب عن العزلة والصمود والاعتماد على الذات.
فجأة ينعطف ويذهب إلى قاموس آخر، يخرج من مكتبة والده، المؤرخ الصهيوني، ورفوف الكتب والمخطوطات وأمثلة العهد القديم وأساطيره وشبح مستشار جابوتنسكي الذي يشير نحوه. لم يذهب إلى قلعة "مسادة"/ مسعدة شرق صحراء النقب، حيث يصعد جنود الجيش ليقسموا بالولاء أمام "الأسطورة". يذهب إلى زمن الإغريق ليستحضر انتحار إسبارطة أمام الفرس، انتحار المنتصرين، وليس إلى انتحار القثائيين أمام الرومان، انتحار اليائس. يلبس خوذة "ليونيداس" ملك إسبارطة السابع عشر الذي ضحى هو ومحاربيه من أجل أثينا والإغريق، وينفض عن وقفته إشكاليات "أليعازر" وشكوك المؤرخين وانتحار اليائسين الذي قتلوا بعضهم من دون قتال.
لقد انتقل تماماً إلى شخصية جديدة، خرج من شخصية المبعوث الرسولي الذي يحلم بإسرائيل الكبرى ومن حاكم الشرق الأوسط، وقبلها شخصية المؤسس الحقيقي لـ"الدولة" وقبلها الساحر والملك، شخصية القائد الذي يقود قلة من المحاربين في مواجهة إمبراطورية متوحشة. مثل عرض مسرحي طويل لممثل وحيد بأقنعة متعددة، ممثل غاضب فقد موهبته وفقد الطريق إلى خارج الخشبة.
(النهار اللبنانية)