مثلما كان يوم قصفت الطائرات الإسرائيلية الدوحة؛ العاصمة، شرقي جزيرة (العرب)، كان اليوم (الثلاثاء) أيضًا، يوم ارتكبت الطائرات العسكرية الإسرائيلية "الجريمة ذاتها"، ولكن في تونس؛ العاصمة في بلاد المغرب (العربي) قبل 40 عامًا كاملة.
يومها لم تكن حركة "حماس"، التي يُريد لنا البعض أن نصدّق أنّها السبب، وأنّ وجودها، أو وجود منتسبيها هو "الذريعة" لكلّ عدوان إسرائيلي، أيًّا كان مكانه، وأيًّا كانت ضحاياه، قد ظهرت بعد.
الإسرائيلي هو الإسرائيلي ولو تبدّلت الأقنعة وما جرى في تونس قبل أربعين عامًا لم يكن بأقلّ عمّا جرى في الدوحة
ويومها، كانت تونس تحت حكم الحبيب بورقيبة، آخر مَن يمكن وصفه (أو اتهامه) بالتطرّف الإسلامي، وأوّل من نادى بين العرب بالاعتراف بإسرائيل (أريحا 1965)، أو فلنقل: أوّل من توهّم إمكانية قيام سلام مع مثل هذا الكيان، المتمثّل واقعيًا وقانونيًا في "دولة احتلال"، لم يُخْفِ القائمون عليها أبدًا نواياهم التوسّعية، إن لم يكن جغرافيًا، فهيمنةً ونفوذا.
ويومها، وربّما كان ذلك ممّا يندرج في باب المفارقات ذات الدلالة، والتي تقول لنا إنّ الإسرائيلي هو الإسرائيلي ولو تبدّلت الأقنعة، كان رئيس الحكومة في تل أبيب هو شيمون بيريز، لا غيره، كما كان إسحاق رابين هو وزير الدفاع/الحرب الذي أشرف على تنفيذ الجريمة. والاثنان كانا يُباعان لنا كحمائم سلام، فما بالك ونحن اليوم نتعامل مع بنيامين نتنياهو، الذي لم تُشْبِعْهُ دماءُ ما يزيد على 60 ألف فلسطينيّ حتى اليوم، ناهيك عن مَن تلطّخت بدمائهم يداه طوال ثمانية عشر عامًا في الحكم. دعك عن أنّه لا يُخفي أهدافه وخططه التوسّعية، ولا يتردّد في التهديد والوعيد، والحديث الصريح عن حلمه بـ"إسرائيل الكبرى".
ويومها، لم يكن حبر "كامب ديفيد" (وإطارها الثاني) قد جفّ بعد، بل كانت محادثات الحكم الذاتي، على قصور ما كانت تعِد به، قد بدأت فعلا. كما كان العرب المجتمعون في فاس (1982) قد طرحوا في قمّتهم المغاربية تلك "مبادرة فاس" والتي تضمّنت لأوّل مرة إجماعًا عربيًا على الاعتراف بحقّ "جميع دول المنطقة" في العيش بسلام. إلّا أنّ إسرائيل كالعادة لم تقبل بأن يكون هذا "مقابل انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية"، في رسالةٍ واضحةٍ ومبكرةٍ (عمرها 43 عامًا) لكلّ الذين يوهموننا اليوم بجدوى المراهنة على أنّ التطبيع هو الطريق الوحيد للسلام. من دون أن يكلّفوا خاطرهم بأن يقرأوا "فيما كان وما هو كائن" ليقولوا لنا، ما هو إذن هذا السلام الذي يتحدثون عنه، بعد أن رفضت إسرائيل (قولًا، وعملًا) كلّ مبادرة عربية لمثل هكذا سلام، من فاس المغاربية (1982)، إلى بيروت المشرقية (2002).
ما جرى في تونس قبل أربعين عامًا لم يكن بأقلّ، وإن اختلفت (تقنيًا) التفاصيل عمّا جرى في الدوحة قبل أيام. العملية التي أطلق عليها جيش الاحتلال اسم "الساق الخشبية" كانت تستهدف في الأساس اجتماعًا قياديًا لمنظمة التحرير، ولمّا تبيّن أنّ الاجتماع تأجّل قصفت الطائرات مقرّ إقامة ياسر عرفات، ومكتبه، وبيوت ومكاتب مرافقيه. كلّها سُويت بالأرض، ووصل عدد الضحايا/الشهداء إلى 50 فلسطينيًا، و18 تونسيًا، وجرحى يزيد عددهم على المائة. وفي مشهدٍ مشابهٍ لِما جرى قبل أيام من احتفالات إسرائيلية تلفزيونية، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي (شارك فيها زعماء "المعارضة") باغتيال خليل الحيّة في الدوحة، وهو ما تبيّن فشله، يتذكّر مَن عاش أيام "حمّام الشطّ"، كيف كان الإسرائيليون يستعدّون للاحتفال بنجاح ضربتهم التونسية قبل أن يخرج أبو عمار أمام الكاميرات واقفًا على ركام بيته، ليعلن أنّه "كفلسطين باقٍ رغم أنف الاحتلال".
يوم قصفت إسرائيل تونس لم تكن "حماس" موجودة ويوم دفنت الأسرى المصريين لم يكن بينهم "حمساوي" واحد
أيًّا كان الأمر، وأيًّا كانت التفاصيل، فلم تكن الليلة "أشبه بالبارحة"، كما يقول المثل العربي، أو كما يقول هذا المشهد أو ذاك، فعربُ يومها غير عرب اليوم، "بعد أن هانت عليهم أنفسهم فهانوا على الناس". يومها أصدر مجلس الأمن قرارًا واضحًا يُدين "العدوان الذي اقترفته إسرائيل... ويحثّ الدول الأعضاء على أن تتخذ تدابير لثني إسرائيل عن اللجوء إلى مثل هذه الأعمال…". اكتفت الولايات المتحدة يومها بالامتناع عن التصويت، بدلًا من استخدام الفيتو المعهود، على الرَّغم من أنّ الجمهوريين أنفسهم هم الذين كانوا في الحكم (رونالد ريغان). أمّا اليوم، وبعد ضربة الدوحة، فلم يكن هناك سبيل لإصدار مثل هذا القرار "الواضح"، فتمّ الاكتفاء ببيان "صحافي"، لا وزن قانونيًا له، على الرَّغم من أنّ ضربة الدوحة صاحبَها انتهاك صريح لا لبس فيه للفقرة 4 من المادة الثانية للميثاق التي توجب "الامتناع عن التهديد باستعمال القوة" ضدّ دولة أخرى عضو في الأمم المتحدة، وهو الأمر الذي مارسه رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه في تصريحات رسمية قبل الضربة وبعدها.
وبعد،
فإذا كنّا في باب التذكير، فدعونا نذكّر للمرة الألف أنّ إسرائيل يوم قصفت تونس (1985) لم تكن "حماس" موجودة، ويوم اجتاحت بيروت (1982)، لم تكن "حماس" موجودة، ويوم دفنت الأسرى المصريين "أحياء" في رمال سيناء، لم يكن بينهم "حمساوي" واحد. ويوم ارتكبت مجزرة قانا (1996) لم تكن هناك "حماس"، بل مواطنون مدنيون لبنانيون لجأوا إلى مقرٍّ تابعٍ للأمم المتحدة ظانّين أنّه يوفر لهم الحماية الواجبة. كما لم يكن كمال ناصر (المسيحي البروتستانتي) "حمساويًا" بالتأكيد حين اغتاله الإسرائيليون مع رفيقَيْه كمال عدوان، وأبو يوسف النجار في بيروت (1973).
الإسرائيليون لا يريدون فلسطينيًا واحدًا يُذكّرهم بحقيقتهم كغاصبين ولا يقبلون بعربيّ واحدٍ ينازعهم أهدافهم
وبالمناسبة، لم تكن جريمة حمّام الشطّ (1985)، الجريمة الإسرائيلية الوحيدة بحقّ تونس أو سيادتها، أو ترابها الوطني، دعك من استهداف سفن قافلة الصمود في ميناء سيدي بوسعيد التونسي، ففي أبريل/نيسان 1988 تسلّلت وحدة من الموساد عن طريق البحر لتغتال خليل الوزير (أبو جهاد) في منزله، وهي الجريمة ذاتها التي كرّرتها باغتيال صلاح خلف (أبو إياد) في تونس العاصمة.
القائمة، قصفًا ومجازر واغتيالات، أطول ممّا تتحمّله سطور هذا المقال. باختصار، الإسرائيليون لا يريدون فلسطينيًا واحدًا على وجه الأرض، يُذكّرهم بحقيقتهم كغاصبين، ومحتلّين. ولا يقبلون بعربيّ واحدٍ ينازعهم أهدافهم، في التوسّع والهيمنة. هذه هي الحقيقة التي لا يريد "بعضُنا" أن يراها على الرَّغم من وضوحها وضوح الشمس.
(خاص "عروبة 22")