تقدير موقف

استهداف قطر والعبث "الإسرائيكي" بالأمن الخليجي والعربي!

عندما أتبع المبعوث الأميركي توماس باراك صلية صواريخه الانقلابية على اتفاقيات سايكس - بيكو، بقصفٍ سياسيّ سجّادي لتعبيد الطريق أمام المقاتلات والمُسيّرات الإسرائيلية، لم يكن أحد يتوقّع أن يُسارع رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو لترجمة مواقف المبعوث الترامبي "بأنّ إسرائيل ستذهب حيثما تشاء، وتفعل ما تشاء، وقتما تشاء"، بالذهاب إلى العدوان على دولة قطر بحجّةٍ مزدوجة... الأولى، اغتيال قيادة حركة "حماس" وفريقها المفاوض. والثانية والأهم، ترسيم وتظهير ملامح نفوذ حلم "إسرائيل الكبرى" في الخليج العربي الذي وجد نفسه أمام حقيقة جديدة مفادها بأنّ "التحالف مع الولايات المتحدة وهم وسراب، ولا يشمل الحماية من إسرائيل".

استهداف قطر والعبث

لا نتحامل على الحقيقة إذا شاركَنا الكثيرون قناعاتهم القائلة إنّ استهداف قطر، هو استهداف أميركي بالدرجة الأولى بشهادة دونالد ترامب الذي سبق أن هدّد قادة حماس من عدم تلقّف مبادرته في الإفراج الفوري عن الأسرى الإسرائيليين. بعد الضربة، بدا أنّ إحراج ترامب الوحيد تمثّل في فشل عملية اغتيال قادة حماس. ما يعني أنّ الضربة الإسرائيلية المنسّقة مع بطاريات الباتريوت ورادارات القواعد الأميركية في قطر وعلى امتداد المنطقة والخليج، والتي فعلت فعلها وخصوصًا قاعدة "العديد"، في التصدّي للصواريخ الإيرانية خلال حرب الاثنَيْ عشر يومًا مع إسرائيل والولايات المتحدة.

كثيرةٌ هي الروايات حول الضربة الإسرائيلية لقطر، بعضها ذهب أبعد من التواطؤ بين الأميركيين والإسرائيليين، وبعضها ذهب إلى حدّ القول إنّ تنفيذ الضربة أميركي 100%، وإعلان المسؤولية عنها إسرائيلي، وبعضها قال إنّ الرادارات الأميركية تُصنِّف مقاتلات "إف 35" الإسرائيلية، مقاتلات أميركية، ولهذا لم تلحظْها الرادارات، وهذا أحد عناصر اعتبار رئيس وزراء قطر محمد عبد الرحمن آل ثاني، بأنّ ما حصل هو خداع كبير، وبدا شديد الوضوح أنّ آل ثاني، لم يستطع فكّ أحجية تصدّي الرادارات للصواريخ الإيرانية، ونومها العميق خلال الضربة الإسرائيلية.

العبث "الإسرائيكي" بالأمن الخليجي من بوابة قطر قُرِئَ جيدًا في مقرّات الحكم الخليجية

شيء من عدم التوازن أصاب المنطقة وليس قطر وحدها، هذا وقد علمنا من شخصية عربية مطّلعة، أنّ "القطريين تبلّغوا من إسرائيل وقبل ثلاثة أشهر رسالة تهديد ووعيد عارية من كل التباس أو تأويل، مفادها حرفيًا بأنّ إسرائيل ستقصف الدوحة إذا لم تبادر الحكومة القطرية إلى طرد قيادة حماس منها". ويضيف المصدر: "يبدو أن القطريين توهّموا بقوة ومتانة تحالفهم مع واشنطن، واستخفوا بالتهديد الإسرائيلي"، والأدهى أنّ "هذا الاستخفاف وصل إلى أُذن نتنياهو!".

من يتذكّر جولة ترامب التريليونية الخليجية والتي شملت قطر، يتذكر خصوصًا أنّه فيما كان أمير قطر وحكومته ينظّمون مهرجانًا احتفائيًا غير مسبوقٍ لرئيس أميركي في المنطقة، كان الرئيس الأميركي إيّاه، في اللحظة التي اعتبر فيها القطريون أنّ حصانتهم الأمنية بلغت ذروتها، كان يدشّن حملة "شيطنة قطر"، مُطلقًا السهام القاتلة على أميرها بقوله "إنّ أمير قطر يُكافح من أجل إيران". لكنّ المناخ الاحتفائي بالزيارة الترامبية طغى على تصدّي منصّات الإعلام القطرية بالتحليل لمقاصد ترامب، الذي بدا أنّه يحرّض على قطر ولا يمدحها. تحريضٌ قُرِئَ أيضًا في مكالمتَيْ ترامب بعد الضربة لأمير قطر ورئيس حكومته، ثنائية تحمل تعاطفًا، كما تحمل ابتزازًا ربما يستبطِن انقلابًا في آن.

العبث "الإسرائيكي" بالأمن الخليجي من بوابة قطر، قُرِئَ جيدًا في القصور ومقرّات الحكم الخليجية التي رصدت بالميكروسكوبات الدقيقة، سرعة التحوّلات العاصفة في ظلّ طغيان نتنياهو واندفاعته المجنونة لتحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" بتطابقٍ كبيرٍ مع ترامب الذي باغت العالم بتحويل اسم وزارة الدفاع الأميركية إلى "وزارة الحرب" تمهيدًا لشنّ حروب كبرى تلوح في الأفق من أوكرانيا إلى الصين مرورًا بإيران.

نعي الأميركيين لاتفاقية سايكس - بيكو هو بهدف صياغة تضاريس المنطقة على أسس عرقية وإثنية

واستنفرت مخاطر العبث "الإسرائيكي" الجهود التضامنية مع قطر بانعقاد القمة العربية - الإسلامية في الدوحة. قمةٌ؛ لم تكن مُخرجاتها، وبعيدًا عن قرع طبول الثأر، بمستوى العدوان على الأمن القومي الخليجي والعربي والإسلامي، في هذه اللحظة الاستراتيجية المُعقّدة.

لكنّ التاريخ الحديث للعرب يؤكد أنّ هذا العبث مستولَدٌ من عبثٍ سابقٍ، استهدف غير بلد عربي، والتاريخ سجّل ووثّق مشاركة الجيش القطري وغيره في العدوان الناتوي على ليبيا وغيرها.

ضربة قطر تأتي في ظلّ انفلات وجنون إسرائيل، وتسيّدها المتدرّج على المنطقة بدوائرها اللصيقة والمتوسطة والبعيدة، باتجاه تحقيق طموحاتها الحقيقيّة في إنشاء "إسرائيل الكبرى"، وهو المشروع الذي يغرس أنيابه في الجسد العربي المُثخن من لبنان إلى سوريا المنزوعة القدرة والفاعلية والتي باتت ترزح تحت وطأة تهديد خطير يتمثّل بتفكيكها وتقسيمها.

بات واضحًا أنّ نعي الأميركيين لاتفاقية سايكس - بيكو، هو بهدف صياغة تضاريس المنطقة على أسسٍ عرقيةٍ وإثنيةٍ ودينوغرافية، وهو ما اتّضحت زواياه في اجتماع عمّان الذي ضمّ توماس باراك ووزيرَيْ خارجية سوريا والأردن حول جنوب سوريا وخصوصيّة منطقة السويداء، توازيًا مع كلامٍ كبيرٍ عن خصوصيّة مماثلة للساحل السوري برعاية روسيا، فضلًا عن الإقليم الكردي شمال شرقي سوريا والذي يُعتبر الأكثر جاهزيةً، والأكثر تعقيدًا في آن.

الاتفاقية الدفاعية بين السعودية وباكستان تحمل دلالات على اعتماد بدائل أكثر نجاعة من التحالف مع الولايات المتحدة

في هذه اللحظة الاستراتيجية من الضعف العربي العام، تعمل إسرائيل على الإفادة القصوى من التحوّلات التي أحدثتها في فرض شروطها وإملاءاتها، لإعادة صياغة شرائط نفوذها في سوريا وانطلاقًا منها على كامل المنطقة، وسط مفاوضات مباشرة بين وزير الخارجية السوري ووزير التخطيط الإسرائيلي لإقرار اتفاقية أمنية، قد يتبعها اتفاقات أخرى، بحسب الرئيس الانتقالي السوري أحمد الشرع، وسط مناخ ضبابي حول قمّة بين نتنياهو والشرع برعاية ترامب، ربما أطاحت بها ضربة قطر.

نقطة الضوء الوحيدة التي سُجّلت بعد ضربة قطر، هي تلمّس الدول الإقليمية الفاعلة، مصر والسعودية وتركيا والإمارات، لمخاطر حقيقية تحدق بهم، مع نقطة ضوء أخرى تمثّلت بتوقيع اتفاقية دفاعية شاملة بين السعودية وباكستان، مع ما تحمله هذه الاتفاقية من دلالاتٍ على اعتماد بدائل أكثر نجاعةً من التحالف مع الولايات المتحدة المُقيَّدة بهدفَيْن مركزيَيْن... الأول، مصالحها الاستراتيجية، والثاني، ضمان تفوّق إسرائيل الأمني على كلّ دول المنطقة من إسطنبول والقاهرة إلى الرياض وإسلام آباد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن