لطالما عانت منطقتنا العربية والشرق أوسطية وخاصة الخليجية من عقدة غياب توازن القوى بين الأطراف المتصارعة في هذه المنطقة الحيوية لمنابع ومصادر ومخزون وإنتاج الطاقة في العالم ـ وشهدت حروبا وصرعات كل عقد من الزمن. والسبب الرئيسي غياب ما يعرف في نظريات العلاقات الدولية توازن القوى الإقليمي الذي يوازن ويمنع الخصوم والأعداء من ممارسة بلطجة القوة والاعتداء.
وحتى اتفاقية الدفاع العربي المشترك في خمسينيات القرن الماضي واتفاقية الدفاع الخليجي المشترك ممثلة بدرع الجزيرة أولا، وباتفاق الدفاع الخليجي المشترك، الذي لم يردع صدام حسين من غزو واحتلال العراق لدولة الكويت عام 1990 ـ 1991 ـ وبتحرير الكويت دون مشاركة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. ونشهد منذ عهد الرئيس أوباما نهج التراجع والانكفاء الأمريكي ـ بانتقاد انغماس الولايات المتحدة "بحروب الشرق الأوسط" الدائمة، مع تراجع أهمية منطقتنا للمصالح الأمريكية ـ يترافق مع صعود الصين بشتى المجالات، والتحدي الواضح للهيمنة الأمريكية.
تقيم الاستخبارات تشكل الصين التهديد الأبرز والقادر على زحزحة الهيمنة والنفوذ الأمريكي العالمي بما تملكه من قدرات وتطوير الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا في جميع المجالات، بما فيها القدرات العسكرية والرقمية والإنتاجية والتصدير. ومؤخرا التطور الكبير بالصناعات العسكرية: حاملات طائرات ومقاتلات وصواريخ. ورأينا كفاءتها في حرب باكستان ضد الهند قبل أشهر. ومشروع الصين العملاق "الحزام والطريق الواحد" ـ بشبكتي طرق وموانئ تربط قارات العالم. وحتى احتدام السباق إلى الفضاء الخارجي.
لذلك لم تعد الولايات المتحدة، خاصة برئاسة ترامب الانعزالية، والتي تفتقد لاستراتيجية متماسكة تطمئن الحلفاء في أوروبا الأعضاء مع الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وفي الاتحاد الأوروبي ـ الأقرب إلى واشنطن يثقون بالتزام أمريكا بالأمن الأوروبي، الذي تولته الإدارات الأمريكية المتعاقبة بعد الحرب العالمية الثانية وعلى مدى ثمانية عقود ـ لنظام عالمي شكلته الولايات المتحدة بنظام المؤسسات والمنظمات الدولية للسيطرة على النظام العالمي فيما العرب ببداية "القرن الأمريكي" ـ يثقون بالحليف الأمريكي. وآخره مفاخرة ترامب قبل أيام في البيت الأبيض بعد عودته من زياره دولة تاريخية إلى بريطانيا ـ "نجني أموالا من حرب روسيا على أوكرانيا ـ بشراء الأوروبيين السلاح الأمريكي لمصلحة أوكرانيا"!.
فما بالك بالحلفاء الخليجيين الذين يتابعون بقلق تذبذب وتقلب ترامب في مقارباته لأزمات وحروب منطقتنا. من اصطفافه كليا مع حرب الإبادة في غزة وتبنيه وإدارته السردية الإسرائيلية-وبرغم كل ما يقدمه من مواقف إلا أن حرب الإبادة مستمرة بلا هوادة ولا يملك رؤية واستراتيجية واضحة يمكن البناء عليها. واستخدامه الفيتو للمرة الثانية في إدارته لإحباط مشروع قرار في مجلس الأمن بوقف الحرب على غزة فورا وبلا شروط وإدخال المساعدات والإفراج عن الأسرى!! وهو الفيتو السادس (4 مرات في رئاسة بايدن) منذ حرب إسرائيل على غزة.
لكن ما يقلق الحلفاء الخليجيين ويدفعهم للتفكير خارج الصندوق تناقض موقف إدارة ترامب. بعدم منع إسرائيل من الاعتداء على قطر في 9 سبتمبر الجاري، وتناقض الراوية الأمريكية. في الوقت الذي يدعي فيه البيت الأبيض بعلمه متأخراً وإبلاغ قطر فيما صواريخ إسرائيل كانت في طريقها لاستهداف مقر اجتماع قادة حماس لمناقشة مقترح الرئيس ترامب لوقف الحرب وتبادل الأسرى ـ لتدمير أي فرصة للتوصل لوقف الحرب وهو هدف نتنياهو وحكومته المتطرفة، أعلنت قطر أن البيت الأبيض أبلغنا بالهجوم بعد 10 دقائق من بدئه!
فيما أكد تقرير لموقع إكسيوس الإخباري الأمريكي أن البيت الأبيض علم بالهجوم قبل 50 دقيقة من وقوعه! وبرغم تأكيد ترامب أنه لن يتكرر الهجوم الإسرائيلي على قطر مستقبلا ـ إلا أن الموقف الأمريكي المتناقض يعمّق الشك وتآكل الثقة، ويثير كثيرا من علامات الاستفهام حول مستقبل العلاقة الأمنية بين دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة والحليف الأمريكي، المنكفئ والمتراجع بأولويات داخلية ـ "أمريكا أولاً" و"لنجعل أمريكا عظيمة" ـ وبأولويات جيوبولتيكية لمواجهة الصين في منطقة "آسيا ـ الباسفيك" ـ وروسيا لحماية الأمن الأوروبي.
كان ملفتا وبدلالات الإجماع بالتضامن مع قطر والتنديد بالعدوان إسرائيلي السافر على سيادة وأمن دولة قطر بقصف أول عاصمة خليجية في "القمة العربية ـ الإسلامية" الاستثنائية في الدوحة. خاصة أن وساطة قطر تلعب دورا رئيسيا ناجحا، ومقدراً، توصلت لهدنة وأدت وساطتها إلى إطلاق سراح عشرات الأسرى الإسرائيليين. واضح هدف الاعتداء، كان ضرب الوسيط وقتل الطرف المفاوض، وإدامة أمد الحرب الوحشية العبثية. تجمع منظمات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان ومحكمة الجنائية الدولية بأنها "حرب إبادة" وتعميق عزلة إسرائيل أوروبيا ودوليا باستثناء الولايات المتحدة.
وكان ملفتا بدلالات وبرسائل أمنية كبيرة إعلان جمهورية باكستان الإسلامية والمملكة العربية السعودية توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المشترك للتعاون العسكري والردع الأسبوع الماضي. من أبرز بنود الاتفاق الدفاعي-عامل الردع المشابه للمادة الخامسة في ميثاق حلف الناتو: "أي اعتداء على دولة هو اعتداء على الدولتين" ـ وتمدد المظلة النووية الباكستانية بدل الأمريكية لحماية الأمن السعودي ومعه بالتالي الأمن الخليجي.
ويرسل انضمام دول خليجية وعربية لاتفاقية الدفاع السعودية ـ الباكستانية ـ رسالة واضحة للولايات المتحدة بأن لدى السعودية والحلفاء الخليجيين خيارات أخرى، ولا تقتصر على الاعتماد على الأمن الأمريكي. وأن الاتفاقية مع باكستان ليست بديلا، بل مكملة للاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية المستمرة منذ عقود. هذا التطور يرافقه قرارات خليجية بتفعيل التنسيق والتعاون الأمني الخليجي-باجتماع مجلس الدفاع الخليجي المشترك الأسبوع الماضي في الدوحة -ومناورات بحرية- الأولى بين مصر وتركيا في المتوسط-واحتمال انضمام تركيا التي شارك الرئيس أردوغان في القمة العربية-الإسلامية للاتفاقية الأمنية المشتركة.
يؤدي ناتو عربي ـ إسلامي ـ إلى أن يغير قواعد اللعبة ويعزز أمن منطقة الخليج والشرق الأوسط، ويحقق احتواء يوازن ويردع غطرسة القوة وعربدة نتنياهو وحكومته المتطرفة. وهذا يدفع ترامب وإدارته إلى إعادة حساباتهم بشكل واقعي ومتوازن مع الحلفاء الخليجيين!
(القدس العربي)