تفرض اللحظة الراهنة من عمر القضية الفلسطينية عقد مقارنة بين سياسيين بريطانيين يشكلان تحولين بارزين فيها، الأول هو أحد أهم الأسس التي قام عليها الاحتلال الإسرائيلي بكل تداعياته الكثيرة والمريرة، والثاني تحوّل له فصول تتعاقب، غير أن ملامحه لن تنجلي في الأفق القريب وستبقى رهن توازنات ومواجهات دولية في ساحة الأمم المتحدة وخارجها.
ورغم أن بريطانيا ليست الدولة الوحيدة التي تعترف الآن بالدولة الفلسطينية، فإن خطوتها تحديداً تحظى برمزية تجعل رئيس وزرائها، كير ستارمر، أحد نجوم هذه الفترة الحرجة في عمر القضية الفلسطينية، وتضعه مباشرة في مواجهة تاريخية مع زير الخارجية البريطاني آرثر بلفور الذي ارتبط تاريخياً بالوعد الشهير الذي يلخصه التاريخ بالقول إنه وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
وإن كان في إعلان كير ستارمر اعتراف بلاده بالدولة الفلسطينية بعض السعي لإعادة بعض الحق إلى أصحابه، وهو أمر، على أهميته، ليس مقضياً به ودونه عقبات كثيرة، فإن ذلك لا يعوّض شيئاً مما دفعه الفلسطينيون من أرواحهم وجغرافيتهم وتاريخهم منذ أبدى آرثر بلفور عام 1917 في الرسالة الشهيرة التي أصبحت وعداً منسوباً إليه، تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونية لإقامة وطن لليهود في فلسطين.
الرسالة كانت موجهة إلى البارون روتشيلد، المصرفي البريطاني وأحد زعماء اليهود في بريطانيا، وفيها طلب منه بلفور إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وأيرلندا بتأييد الحكومة البريطانية لمساعيها لإقامة هذا الوطن اليهودي. ورغم أن إسرائيل قامت بعد ذلك في عام 1948، فإن أثر هذا الوعد كان محورياً في دفع يهود أوروبا إلى الهجرة إلى دولة الاحتلال التي قامت على أرض فلسطين، وبعدها توالت فصول المأساة التي لا تزال تتفاعل في ظل حكومة إسرائيلية متطرفة تستدعي أوهاماً تاريخية ودينية وتمضي في تذويب الوجود الفلسطيني بقتل البشر ومحاولة اصطناع جغرافيا جديدة في تحدٍّ متواصل لكل القوانين الدولية.
ليس في الاعتراف البريطاني بالطبع تكفير عن وعد بلفور، ولن يعيد الأرض والبشر، لكنه جزء مهم من لحظة تاريخية تتفق فيها دول فاعلة على الانضمام إلى قائمة البلدان المعترفة بالدولة الفلسطينية، أملاً في سلام لا يوقف فقط مأساة غزة، بل يتصدى أيضاً لجنوح ساسة إسرائيل في التعامل مع المجتمع الدولي، والتصميم على تهجير الفلسطينيين، سواء من القطاع أو الضفة، وتوسيع دائرة الاستيطان والعنف الممنهج.
ما فعلته بريطانيا ودول أخرى غيرها هو عنوان تحوُّل دولي في التعامل مع إسرائيل. صحيح أنه لن يعني معاداتها وسيبقى رهن توازنات في العلاقات، خاصة مع راعيها الرئيسي: الولايات المتحدة، لكنه يمثل تصدياً تأخر للتغوّل الإسرائيلي الذي يهدد المنطقة والعالم وخروج صناع القرار في إسرائيل عن حدود السيطرة. من هنا، يأتي الغضب الإسرائيلي من تعاقب قرارات الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو بعض حق يعود إلى أصحابه.
(الخليج الإماراتية)