حين أعلن الزعيم الراحل ياسر عرفات قيام الدولة الفلسطينية في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988 في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان في المنفى) المنعقد في الجزائر، لم يكن أحد يتصوّر وقتها أن العالم، ولاسيما الدول الغربية الكبرى، سينتظر 37 عاما حتى يعترف بها. كنت حاضرا وقتها حين أعلن قيام هذه الدولة حوالي الساعة الثالثة فجرا في القاعة الكبرى بقصر الصنوبر، وسط حماس الجميع حيث جاء هذا الإعلان في عز الانتفاضة الفلسطينية الأولى كمحاولة لاستثمار "ثورة الحجارة" لترجمة موقف قديم وارد في "البرنامج المرحلي" لمنظمة التحرير الفلسطينية بإقامة الدولة «على أي شبر يتم تحريره أو الجلاء عنه» لكن الظروف فرضت أن يأتي مع استمرار الاحتلال لتكون في النهاية دولة تحت الاحتلال ولا تزال.
بين أجواء الجزائر 1988 واحتفائية مجلس الأمن أول أمس بحل الدولتين مع تتالي اعترافات الدول الغربية الكبرى بهذه الدولة جرت مياه كثيرة تحت الجسر، أهمّها على الاطلاق "اتفاق أوسلو" عام 1993 و"العشم" الذي كان يحمله في طياته بقيام هذه الدولة حين تنتهي ما سميت بـ"بمفاوضات الوضع النهائي" التي ستخوض في قضايا الحدود واللاجئين والقدس والمستوطنات والمياه.
هذا الاتفاق، ورغم ما سمح به من عودة آلاف الفلسطينيين إلى جزء من الوطن، لم يكن في النهاية سوى مقامرة انتهت بسلطة ضعيفة ينخرها الفساد وعاجزة عن الدفاع عن مناطقها وضمان أمنها فانتهت إلى مجرد جهاز مترهّل لإدارة بعض جوانب الحياة نيابة عن الاحتلال ليس أكثر. وزادت الأمور سوءا حين لم تحترم نتائج انتخابات 2006 التي فازت بها حركة «حماس» فدخلت القضية في نفق مظلم بسيطرتها على قطاع غزة وفرض سلطة موازية أضرت أيما ضرر بالقضية ككل.
جاء الحدث البارز في نيويورك مع هذه التظاهرة الدولية الكبرى وخطتها لقيام دولة فلسطينية، بعد 77 عاما من قيام دولة إسرائيل وفق قرار التقسيم لعام 1947، والفلسطينيون في أضعف حالاتهم سواء في قطاع غزة المدمّر أو الضفة الغربية المستباحة، لكن ذلك لا ينفي ضرورة الاستفادة من هذا "التسونامي الدبلوماسي" في الاعتراف بالدولة الفلسطينية في اتجاه ترجمته على الأرض رغم كل ما يعترض ذلك من عراقيل هائلة تضعها دولة الاحتلال وراعيها الأمريكي.
ما أعلنه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلمته بالفيديو خلال اجتماع نيويورك من تنظيم انتخابات خلال عام بعد انتهاء حرب الإبادة في غزة يمثل فرصة ثمينة لتجديد الشرعية الفلسطينية، وإن كان من غير المعروف كيف ستتصرّف مختلف القوى الفلسطينية، وبالأخص حركة «حماس» مع جملة الشروط التي وضعها لذلك، مع أن الحركة نفسها مدعوة قريبا لمراجعات مؤلمة وقرارات حاسمة من الصعب تأجيلها.
الانتخابات الفلسطينية محطة هامة للغاية لنقف بوضوح عن من سيختارهم الشعب الفلسطيني بعد ما بدا جليا أداء القوى المختلفة طوال عشرين عاما غاب فيها توجه المواطنين إلى صناديق الاقتراع. غياب هذه الانتخابات، بذرائع شتى، هو ما أوصل الحالة الفلسطينية إلى وضعها الحالي، بل هناك من يذهب إلى حد القول إنه لو لم تتراجع القيادة الفلسطينية عن إجراء الانتخابات آخر مرة عام 2021 لكانت الضفة والقطاع قد عادا للوحدة من جديد، ولما جرت أصلا عملية 7 أكتوبر 2023 وما أعقبها من ويلات.
وكما كتب نبيل عمرو الوزير الفلسطيني السابق وأحد قيادات "فتح" التي ظلت محافظة على مقاربة نقدية رصينة لكل المشهد الوطني، سلطة ومعارضة، فإن "خطاب عباس هو الأصعب عليه كتجرّع السم، ولكنه جسّد به حقيقة أن أقرب مسافةٍ بين نقطتين هي الخط المستقيم، إذ قال للعالم ولأمريكا ولإسرائيل بالذات، هذا كل ما طلبتموه ألبيه لكم، وفوقه لفتةٌ إضافية وهي تقديم التهنئة بمناسبة رأس السنة العبرية، فماذا سيكون ردّكم على هذا الإغداق في تلبية الطلبات، هل ستردون بإيجابيةٍ على ما قدّمت؟ أم ستواصلون عادتكم في التعامل مع المبادرات الفلسطينية مهما احتوت من تنازلات بأن تطلبوا المزيد؟".
هذا هو السؤال الجوهري حاليا، ومؤشراته في الحقيقة لا تبدو مطمئنة، طالما أن نتنياهو رئيس حكومة وتحالفه اليميني الفاشي في الحكم، وطالما أن الطبقة السياسية الإسرائيلية لا تختلف عنه كثيرا وكذلك المجتمع، وطالما أن الرئيس ترامب يقف مؤيدا لكل هؤلاء بلا تحفظ ولا أخلاق. لكن السؤال الآخر الذي لا يقل أهمية هو أيضا مدى قدرة الدول الغربية العديدة التي اعترفت بالدولة الفلسطينية أن تكسر الدائرة الجهنمية المغلقة لهذا الثنائي بحيث لا يبقى العالم كله رهينة لأمزجتهما العدوانية التي تهدد الآن بضم الضفة الغربية كرد على كل ما جرى.
قد لا يستطيع العالم فرض أجندته التي تبناها في الأمم المتحدة، والتي أبانت عن عزلة رهيبة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، دون أن يتحرك بشكل عملي جاد لإسماع صوته عبر مسلك المصالح بفرض العقوبات الاقتصادية والعسكرية على دولة الاحتلال حتى تصبح مؤلمة وغير قابلة للتحمّل وبالتالي تصبح دافعة إلى مراجعات مهما كانت. الطريق ليست سهلة بالتأكيد، ولكن لا بديل عنها، لكن الخطوة الأولى يجب أن تكون وقف حرب الإبادة في غزة قبل كل شيء آخر.
(القدس العربي)