بصمات

الهروب الى الأمام!

يُستعمل تعبير "الهروب إلى الأمام" في المعتاد للحديث عن محاولة الفرد من الناس الهرب من مجابهة مشكلٍ فعليّ قائمٍ أو الجواب عن سؤالٍ مطروحٍ بالانصراف إلى الحديث عن مشكلٍ آخر، أو طرح سؤالٍ مُغاير. فالهروب إلى الأمام مثيل لما يُقال عنه "سياسة النّعامة" إذ تدفن رأسها في الرمال حتّى لا تُبصر الصياد الذي يطاردها فتوهمُ نفسها أنها في منجاةٍ من الهلاك.

الهروب الى الأمام!

قد يكون "الهروب إلى الأمام" لعبةً إيديولوجيةً، أحيانًا كثيرة، لعبة يمارسها رجل السياسة بهدف خداع خصمه والالتفاف حوله وبالتالي صرفه عن المشكل القائم أو السؤال المطروح. غير أنّ "الهروب إلى الأمام" قد يكون من الشخص ذاته، لا من خصمه، ويكون دليل ضعف ونقص حيلة، وليس عن دهاءٍ وقدرةٍ على المكر والمراوغة، إلّا أن تكون مراوغة للذات ومكرًا فاسدًا.

يغدو "الهروب إلى الأمام" إذن، في هذه الحالة الأخيرة، شكلًا من أشكال الضعف الشديد فهو دفاعٌ عن النفس يحدث بكيفيةٍ لاشعوريةٍ يتمّ بموجبه اللجوء إلى استخدام سلاح أو آليات الدفاع عن النفس على نحوٍ يوضحه التحليل النفساني توضيحًا كافيا. وفي عبارةٍ أخرى، فإنّ الشخص إذ يعجز عن إيجاد حلٍّ للمشكل القائم، فإنّه يفرّ "إلى الأمام" عجزًا وخوفًا.

حديث معكوس يكون فيه الحديث عن الغير المُخالِف حديثًا عن الذات

يصحّ القول في هذا السياق، استطرادًا، إنّ الإغراق الشديد في الإبحار في الشبكة العنكبوتية، في العالم الافتراضي، صورةٌ نموذجيةٌ لما نقصد تبيينه بذكر "الهروب إلى الأمام". أقول ما أقوله عطفًا على ما سبق مني الحديث فيه عن "تغريب الغرب"، فأنا أقرن ذلك "التغريب" بـ"سلوك نهج الهروب الى الأمام" - وهذا ما أحاول، في حديثي اليوم، أن أسلّط الضوء على أحد جوانبه. وأجدني في حاجةٍ، من أجل ذلك، إلى التذكير بما عرضت له في حديثي السالف عن "الغربوفوبيا". أُجمل الحديث المُشار إليه في جملٍ ثلاث:

أقول في الأولى إنّ الفكر العربي المعاصر، على امتداد عقودٍ من نشأته الأولى في منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم، لا يكاد يكفّ عن ترديد فكرةٍ تقضي بأن " الغرب" يشكّل كلًا واحدًا منسجمًا.

وفي الجملة الثانية، إنّ الخطاب العربي المعاصر، منذ أوّل عصر النهضة العربية إلى يومنا هذا، لا يزال، في عمومه، مُصرًّا على اعتبار الغرب نقيضًا لما يقول عنه إنّه الذات العربية – الإسلامية. وبالتّالي فإنّ الحديث عن الغرب حديثٌ عن العرب وعن العالم العربي - الإسلامي حديثًا معكوسًا، على النحو الذي يكون فيه الحديث عن الغير المُخالِف حديثًا عن الذات، أو كما يقول أصحاب المنطق الجدلي، في شرح المعنى الذي يكون فيه الحديث عن الغير النقيض تحديدًا للذّات بالسلب - حديثًا عمّا تعتقد الذات أنّه ضدّ ونقيض لها. تحديدٌ للذات بالسلب، أي تعيين لها بما ليست عليه.

ثمّ أقول، في الجملة الأخيرة من هذا التذكير، إنّ كلّ تيار من تيارات الفكر العربي المعاصر "يُغرِِّب الغرب" على النحو الذي يُمكّنه من رسم الصورة التي يريدها لذاته (الغرب كذا وكذا، وأنا مغاير لكلّ ذلك أو لجوانب منه) - غني عن البيان أنّه يقوم بنسج الصورة التي يريد أن يكون عليها وليس الفعلية.

واقعُ الحال يبرهن أنّ الغرب أبعد ما يكون عن تشكيل كتلة واحدة

يبدو لي، في ضوء المعيش وفي مشاهدة ما يُحدثه في العالم أمرُ فلسطين والإبادةُ الجماعية في غزّة، في دول أوروبا وأميركا الشمالية وبالتالي في الغرب، أنّنا لا نزال غارقين في الوهم الذي يقضي بأنّ "الغرب" كلٌّ واحدٌ، منسجمٌ في نهاية الأمر. لا نزال متشبّثين بالصورة المُتوهّمة للغرب، تلك التي تقضي بأنّ الغرب، في كلّيته، يُمثّل، بالنسبة لنا نحن العرب، النقيض المطلق. لا نزال كذلك، وواقعُ الحال يبرهن لنا أنّ الغرب أبعد ما يكون عن تشكيل كتلةٍ واحدة. إنّه ليس كذلك في مواقفه السياسية الكبرى: ففي الوقت الذي ثبت فيه أنّ الدول التي صوّتت لصالح مبدأ الدولتَيْن يفوق الثلثَيْن، نجد حكومتَيْن أساسيتَيْن في المجموع الأوروبي الغربي - هما إيطاليا وألمانيا. ثم نلاحظ أنّ موقفَيْ الحكومتَيْن المذكورتَيْن، والإيطالية خاصةً ونُسجّل مبادرةً من المجتمع الإيطالي في المطالبة بإقصاء إسرائيل، بسبب حرب الإبادة التي تخوضها ضدّ غزّة والشعب الفلسطيني، من منافسات كأس للعالم مثلما تمّ إقصاء روسيا بسبب الحرب على أوكرانيا، في تناقضٍ تامٍّ مع ما تنادي به الدولة. يريده الشارع الإيطالي في مختلف أرجاء الحكومة. ثم، في نهاية القول: هل تغفل عين عاقلٍ من أنّ أميركا ترامب غير؟ تسعى، بكلّ سبيل، إلى إذلال الغرب الأوروبي وبالصراخ في القول إنّ الغرب غير الولايات المتحدة الأميركية؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن