في محاولة لفهم وتفسير حقيقة الحرب التي تفجرت في مايو/ آيار الماضي بين الهند وباكستان إثر هجوم إرهابي وقع في كشمير (الهندية) وأودى بحياة 26 سائحاً، ردت عليه الهند بقصف داخل الأراضي الباكستانية، تسرع مراقبون ومحللون وقالوا إن هذه الحرب بين الهند وباكستان "هي حرب بالوكالة بين الولايات المتحدة والصين"، وإنها أيضاً "الوجه الآخر الخشن للحرب التجارية بين هاتين القوتين العالميتين"، باعتبار أن باكستان حليف الصين، وأن ميناءها "جوادر" محطة رئيسية على "طريق الحرير ومبادرة الحزام والطريق" الصينية، وأن الهند هي حليف الولايات المتحدة، وأن ميناء بومباي "هو نقطة انطلاق طريق القطن، أو الممر الاقتصادي الآسيوي – الأمريكي".
هذا الفهم، وإن كان يحمل جزءاً من الحقيقة، إلا أنه لا يتضمن الحقيقة كلها، فالوجه الحقيقي للسياسة الهندية شديد التعقيد، بل وشديد الاضطراب، لسبب أساسي يرجع إلى التقديرات الخاطئة لحقيقة "الدور" الهندي في السياسة الدولية، وعلى الأخص في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ، وموقع الهند في الصراع الأمريكي – الصيني الدائر بين واشنطن وبكين في هاتين المنطقتين. فالواقع الفعلي يقول إن الهند، وإن كانت عضواً في "التحالف الأمني الرباعي (كواد)" مع الولايات المتحدة واليابان واستراليا، لمواجهة النفوذ والاستراتيجية العسكرية الصينية في منطقتي المحيطين الهندي والهادئ (الإندوباسيفيك)، إلا أن الهند لها طموحاتها التي تسعى إليها لجعل الهند قوة عالمية، وهى أيضاً لها خلافاتها القوية مع الولايات المتحدة، ولها مصالحها وطموحاتها القوية المتصاعدة مع الصين.
كما أن باكستان وإن كانت قد أضحت شديدة الاقتراب اقتصادياً وعسكرياً (تسليحياً) مع الصين، فهي تاريخياً محسوبة ضمن التحالف الأمريكي، وصديق تاريخي للولايات المتحدة، وإذا أخذنا "التسليح" كمحدد لترسيم العلاقات بين الدول سنجد أن التسليح الهندي هو تسليح روسي وغربي، وأن التسليح الباكستاني تسليح صيني وغربي، وأمريكي بالتحديد، والأكثر من ذلك أن الدولتين (الهند وباكستان) حليفتان تقليديتان للولايات المتحدة، ما يعني أن الحرب الهندية – الباكستانية الأخيرة "ليست حرباً بالوكالة بين الولايات المتحدة والصين، وأن السياسة الخارجية للهند وباكستان لا تحددها فقط علاقات البلدين بالقوى الخارجية، لكن تحددها أيضاً الصراعات الحدودية الهندية – الباكستانية، ويحددها أيضاً إدراك كل من الهند وباكستان لدور كل منهما في السياسة الدولية، هل هو دور تابع للقوى العالمية الكبرى، أم هو دور مستقل؟.
فالهند، منذ استقلالها عام 1947 عن الاستعمار البريطاني اتبعت في الغالب سياسة "عدم الانحياز". وكانت في عهد رئيس الوزراء جواهر لال نهرو عضواً مؤسساً لهذه السياسة مع كل من مصر (جمال عبدالناصر) ويوغوسلافيا (جوزيف بروز تيتو)، ومن ثم اتبعت سياسة العداء للتحالفات، ورفضت التورط في عضوية أي من المعسكرين المتصارعين في سنوات الحرب الباردة: المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة، لكن، وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو، وانتهاء النظام العالمي "ثنائي القطبية"، قررت الهند الانفتاح على الولايات المتحدة والمعسكر الغربي في ظل تسيّد الولايات المتحدة لزعامة النظام العالمي، لكنها لم تنتهج "سياسة انحيازية"، بل التزمت بما أسمته بـ"سياسة تعدد المحاذاة"، بما تعنيه من بحث الهند عن أصدقاء في كل مكان، مع رفض إقامة تحالفات واضحة، والاتجاه نحو "تنويع الشراكات"، وتعزيز دعوة تأسيس نظام عالمي متعدد الأقطاب، لا توجد فيه قوة عظمى واحدة، أو نظام ثنائي القطبية.
كانت خلفية هذه السياسة هي سعي الهند لتكون هي الأخرى قوة عظمى في نظام متعدد الأقطاب، لذلك عمل الاستراتيجيون الهنود على قاعدة فهم تقول إن "الاحتياجات الاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية للهند لا يمكن تلبيتها من قبل شريك أو تحالف واحد، ومن ثم انخرطوا في علاقات وشراكات اقتصادية وعسكرية مع الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل وقوى فاعلة في ما تسميه الهند بـ"الجنوب العالمي" (الوجه الجديد المأمول لتكتل عدم الانحياز) مثل البرازيل وجنوب إفريقيا وإيران، لكن هذا التوجّه الاستراتيجي لم يكن على "الهوى الأمريكي"، وبالذات لدى الرئيس الحالي دونالد ترامب، الذي لا يقبل بـ"نصف انحياز"، أو "نصف انصياع" من شركاء الولايات المتحدة، على نحو أزمته الحالية مع دول الاتحاد الأوروبي ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وجاء الصدام الأمريكي مع الهند كما تمثل في رفع التعريفات الجمركية على الهند بنسبة 50%، تفوق ما هو مفروض على الصين نفسها، ليفاقم من مشاعر التشكك الهندي في العلاقة مع الولايات المتحدة، وهي شكوك دعمها تنامى العلاقات الأمريكية مع باكستان في أعقاب المواجهة العسكرية الهندية - الباكستانية في مايو/ آيار الماضي، خصوصاً بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي، أنه توسط في وقف إطلاق النار بين البلدين، الأمر الذي نفته الهند بشدة، لكن ترامب ضاعف من المشاعر السلبية الهندية عندما قال إنه "سعيد باحتضان باكستان الفوري، لكونه (داعية سلام) وترشيحها له للحصول على "جائزة نوبل للسلام". هل يمكن أن تكون الصين هي الوجهة البديلة للهند في ظل تصاعد الخلافات الهندية – الأمريكية؟ الإجابة ربما تكون صعبة ومفعمة بالتحديات والعقبات، أو ما يمكن تسميته بـ"الحيرة الهندية".
(الخليج الإماراتية)