انتهت الحرب في قطاع غزة وانجلى غبار المعارك على مشاهد قاتمة ومأساوية، عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين ودمار غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، دمرت الحرب كل شيء وعصفت بالبشر والشجر والحجر، لكن رغم توقف دوي المدافع وهدير الطائرات وتوقف عداد الموت اليومي، إلا أن تحديات كبيرة تنتظر الشعب الفلسطيني، لا تقل خطورة عن تحديات الحرب نفسها، وأول هذه التحديات شكل الإدارة السياسية المقبلة للقطاع وطبيعتها ودورها في إعادة الإعمار وإصلاح ما دمرته الحرب بعد أن أصبح قطاع غزة مهدماً بشكل شبه كامل، حيث تشير مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى أن أكثر من 90% من أبنية المدارس والجامعات في القطاع دمّرت، وأن إسرائيل استخدمت الغارات الجوية والقصف والحرق والهدم المنهجي لإلحاق الضرر أو التدمير بهذه المنشآت، ناهيك عن خسائر النظام الصحي، وطبقاً لحكومة غزة، فقد تجاوزت الخسائر الأولية المباشرة لكافة القطاعات الحيوية بعد عامين من الإبادة الإسرائيلية 70 مليار دولار.
ولذلك وقبل وقف إطلاق النار كان الهدف الأسمى والأكثر إلحاحاً هو وقف حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد أبناء القطاع، ومحاولات تهجيرهم إلى خارج وطنهم في إطار مخطط رسم مسبقاً واتخذ من هجوم السابع من أكتوبر ذريعة لتنفيذه. وبدا هدف إيقاف الحرب والجرائم التي يرتكبها الاحتلال هدفاً وطنياً حظي بإجماع الشارع الفلسطيني وقواه السياسية، بل بات مطلباً عالمياً أيضاً عبّر عنه ملايين المتظاهرين في العالم الداعين لوقف حرب الإبادة الإسرائيلية ومحاكمة المسؤولين عنها وفي مقدمتهم رئيس الوزراء الإسرائيلي.
صحيح أن الشعب الفلسطيني تحمّل الفاتورة الأثقل في هذه الحرب التي بدت أقرب إلى الملاحم التاريخية الطاحنة التي عاشتها البشرية، رغم الفارق الكبير في ميزان القوى بين الاحتلال الإسرائيلي المدعوم غربياً وأمريكياً بشكل خاص، وبينما يدعي كل طرف تحقيق مكاسب كبيرة، تظل الخسائر البشرية والمادية الكبيرة شاهدة على الثمن الباهظ الذي دفعه الجميع، خاصة سكان قطاع غزة.
وبعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب في غزة، بدا واضحاً أن العقدة الأكبر في طريق وقف الحرب هي تبادل الأسرى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وأنه من خلال الانتهاء من هذه العقدة تنتهي الحرب، فإسرائيل حصلت على أسراها في غزة ومعظم جثامين قتلاها، وتم تحرير المئات من الأسرى الفلسطينيين، وبدء إدخال المساعدات إلى قطاع غزة.
لكن السؤال الذي يبدو ملحاً، بعد انتهاء المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وهي تبادل الأسرى، هو: هل ستمضي تلك الخطة بسلاسة في مراحلها التالية، ولاسيما تسليم السلاح وإعادة إعمار غزة، الذي يعدّ التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة، التي لا تخلو من التعقيدات السياسية. بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية أكثر ارتباطاً بالأمن الإقليمي، وتعويض أهل غزة عما لحق بهم من معاناة لا يتم فقط بإعادة الإعمار وحدها، بل يحتاج إلى استحقاقات سياسية، مثل إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، ومعالجة الانقسام الداخلي، خاصة مع غياب الضمانات المؤكدة بعدم عودة إسرائيل إلى الحرب أو زرعها الألغام كعادتها في طريق الحلول السياسية.
ولعل تسليم السلاح الذي تطرحه خطة ترامب يعدّ من أكثر العقد صعوبة في مستقبل قطاع غزة، حيث لا تظهر بوادر حقيقية حول قبول المقاومة الفلسطينية بتسليم أسلحتها، وهو ما عبر عنه الدكتور موسى أبو مرزوق، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، الذي أكد أن سلاح الشعب الفلسطيني خيار قانوني وشرعي في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، فيما تعهدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعدم تسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية أو وقف مقاومتها المسلحة للاحتلال الإسرائيلي بعد انسحابه من غزة.
أخيراً، يمكن القول إن خطة الرئيس ترامب وضعت حداً للحرب، لكنها لن تنهي الصراع الذي امتد لأكثر من سبعة عقود ما لم تستثمر المواقف العربية والدولية الداعمة لوقف الحرب في خلق مناخ سياسي يقود الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة، وإلا فإن وقف إطلاق النار الحالي لن يكون سوى هدنة مؤقتة، فرضتها اعتبارات سياسية أمريكية أخذت بعين الاهتمام إخراج إسرائيل من مأزقها والعزلة التي باتت تحيط بها على مستوى العالم. فهل ستقود هذه الخطة الأمريكية إلى السلام أم أنها ستكون واحدة من عشرات المحاولات التي فشلت في إنهاء الصراع وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية؟ إنه سؤال مهم ستجيب عنه الأيام المقبلة.
(الخليج الإماراتية)