على الرغم من المحاولات الحثيثة والجهود الدبلوماسيّة لمنع تدهور الأوضاع في لبنان، إلا أن كل التقديرات الاسرائيليّة تُشير إلى أنها ليست بوارد التنازل عن خيار الحرب بحجة القضاء على "حزب الله" ومنعه من استمرار تعزيز قوته على طول الحدود، خصوصًا أنها تواصل التشكيك بقدرات الجيش اللبناني وصلاحيته في نزع سلاح الحزب وتحقيق السيطرة الكاملة على البلاد. وقد نقلت العديد من وسائل الاعلام العبرية، في تقاريرها، معلومات مفادها أن تدخلًا أمريكيًّا جديدًا قد ظهر ونَصح تلّ أبيب بعدم الذهاب نحو التصعيد الذي قد يُفجّر مواجهةً واسعة، في ظل استمرار التوتر على الجبهتين اللبنانية والغزية، وهو ما سيكون محور اللقاءات التي سيعقدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في واشنطن مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب نهاية الشهر الجاري.
وهذه الزيارة الخامسة لنتنياهو إلى الولايات المتحدة منذ تولي ترامب منصبه في كانون الثاني/ يناير من العام الحالي، مما يعكس حجم العلاقات ومدى الدور الاميركي المتزايد خاصة أنها تعتبر الاولى منذ إقرار وقف إطلاق النار في غزة بناء على خطة ترامب المؤلفة من 20 بندًا، والتي أفضت إلى وقف الحرب – بمعناها الشامل – بعد عامين. وتعكس هذه التطورات رغبة واشنطن بالحفاظ على الحدّ الأدنى من الهدوء في الشرق الأوسط خاصة أن استراتيجيتها الجديدة تقوم على اعتبار أن المنطقة تحولت من مصدر تهديد لمصالحها إلى وجهة استثمار وتجارة وشراكة، وهو ما جاء في مضمون الوثيقة الجديدة التي شكلت تحولًا جذريًا في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. واللافت أنه في الوثيقة المؤلفة من 33 صفحة، لم تحتل فيها المنطقة سوى بضعة صفحات فقط لاعتبارها أن الاولوية لم تعد تتمركز هنا بعدما تناولت ما أسمته إضعاف إيران وترجيح استقرار سوريا بدعم أميركي وعربي واسرائيلي وتركي.
وتكشف هذه التبدلات والتحولات الجوهرية عن نظرة مختلفة رغم وضع أولوية واحدة مؤكدة أن "أمن اسرائيل من أمن واشنطن"، وأن ذلك لا تراجع عنه في كل سياساتها التي أفضت على مدار عقود طويلة إلى تثبيتها كقوة فاعلة وسط هيمنة جديدة بعد عملية "طوفان الأقصى". واليوم تعيش المنطقة تبعات ذلك، فلبنان يستمر في دفع ضريبة حرب "وحدة الساحات" وعدم التزام تل أبيب بإتفاق وقف النار المبرم في وقت لم يسعف إدخال مدنيين إلى لجنة "الميكانيزم" في خفض التوتر وتنفيس الاحتقان خاصة أن التعديات اليومية لا تزال مستمرة وعلى نطاق واسع. بينما تحاول فرنسا، لما تملكه من مكانه وحيثية في لبنان، إلى لعب دور ما وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال توسيع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان مروحة لقاءاته، حيث التقى أمس، الثلاثاء، كلاً من رئيس مجلس النواب نبيه بري وقائد الجيش رودولف هيكل ووزير الخارجية يوسف رجي ورئيسيّ الحزب "التقدمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط، والحالي النائب تيمور جنبلاط، كما اجتمع مساءً مع رئيس الحكومة وعدد من الوزراء على مأدبة العشاء في قصر الصنوبر. وقد ركزت اللقاءات على التطورات الحالية وضرورة تثبيت وقف إطلاق النار والتحضير للمؤتمر المنتظر لدعم الجيش اللبناني.
تزامنًا، برزت الجولة التي قام بها السفير الأميركي لدى الأُمم المتّحدة مايكل والتز على طول الحدود الشمالية من لبنان إلى سوريا، قبل أن ينتقل بمروحيةٍ عسكريةٍ إلى قطاع غزة جنوبًا. وقد ضمت الجولة أيضًا السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتّحدة داني دانون وضباطٍ في الجيش، حيث إستمع والتز إلى تقارير ميدانيّة حول نشاط "حزب الله" وقوات "اليونيفيل" في المنطقة كما جرى عرض تقارير من قبل القوات الاسرائيلية تؤكد أنّ تلّ أبيب "لن تقبل استمرار تعزيز "حزب الله" لقوته على طول الحدود"، مشددة على أن خيار "عملية عسكرية واسعة، أكبر من الضربات الموجهة حاليًا، ما زال مطروحًا على الطاولة". والتهديد الاسرائيلي بات أشبه بـ"الخبز اليومي" للبنانيين الذين يعيشون على وقع التصعيد والتصريحات العالية السقف في وقت يحاول المسؤولون اللبنانيون الضغط من أجل وضع حدّ للانتهاكات. وكان رئيس الجمهورية جوزاف عون حطّ في سلطنة عمان في زيارة رسمية تستمر ليومين، حيث يجري خلالها مباحثات في المستجدات والأوضاع العامة في لبنان والمنطقة.
وعلى وقع التقديرات الاسرائيليّة بالحرب، تبرز الجبهة السورية أيضًا، خاصة أن اللقاءات التي عقدت مع تل أبيب برعاية اميركية لم تسهم في التوصل إلى أي اتفاقيات أو تفاهمات، بحسب مكتب نتنياهو. وقد استغلت اسرائيل سقوط النظام السابق لتعزيز وجودها حيث ينتشر جيش الاحتلال في تسع نقاط داخل جنوب سوريا، معظمها داخل المنطقة العازلة، ونقطتان على الجانب السوري من جبل الشيخ، وذلك بحجة حماية أمن وحدود إسرائيل. وتسعى دمشق إلى التوصل لاتفاق ما من أجل تثبيت الاستقرار في البلاد ولكنها تصطدم بالتعنت الاسرائيلي ورفضه التراجع عن المناطق التي سيطر عليها إلى جانب تأليبه الدروز ضد الحكم الحالي. وتبرز هنا مقاربة اميركية تختلف عن تلك الاسرائيليّة منها، لاسيما ان واشنطن أكدت أكثر من مرة أنها تريد لإدارة الرئيس أحمد الشرع أن تنجح وأنها ستمنحها الفرصة لذلك. وتجسد ذلك بشكل جلّي من خلال الدفع نحو رفع عقوبات "قانون قيصر" واللقاء "التاريخي" الذي جمع بين ترامب والشرع في البيت الأبيض.
ويلعب الموفد الأميركي توم برّاك دورًا محوريًا في هذا المجال خصوصًا انه يبدي إعجابة بالرئيس الشرع وسياسته المعتمدة، ما دفع موقع "واللا" للكشف أن توترًا متصاعدًا يسود داخل الحكومة الإسرائيليّة بشأن برّاك، إذ نُقل عن مسؤول إسرائيلي كبير قوله إن نتنياهو بات يعتبر المبعوث الأميركي "جهة معادية" في بعض الملفات، وأنه "متأثر بشدة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان" في مقاربته للملف السوري. وبحسب الموقع عينه، فقد قال المسؤول الإسرائيلي إن برّاك "يتصرف وكأنه سفير تركي"، في إشارة إلى ما تعتبره تل أبيب انحيازًا تامًا لرؤية أنقرة المتعلقة بمستقبل الشمال السوري والترتيبات الأمنية الحدودية، الأمر الذي ترى فيه تل أبيب تهديدًا مباشرًا لمصالحها الاستراتيجية. في الأثناء، ذكرت قناة "الإخبارية السورية" أن قذائف "مجهولة المصدر" سقطت في محيط مطار المزة في العاصمة دمشق، من دون أن تسفر عن أي إصابات.
التحديات التي تواجهها سوريا الداخلية منها والخارجية تترافق مع تقلبات حادة في المنطقة التي تعيش على وقع صفيح ساخن، لاسيما ان حرب غزة لم تنتهِ بالمعنى الفعلي مع استمرار الخروقات اليومية وعمليات النسف للمنازل والمباني السكنية في وقت يتوقع أن تبدأ مفاوضات المرحلة الثانية بعد تأجيل ومماطلة اسرائيليّة. وصعّد جيش الاحتلال، الثلاثاء، انتهاكاته حيث نفذ غارات جوية وقصفًا مدفعيًا مكثفًا شرقي خان يونس جنوب القطاع، ونسف مباني سكنية في حي الشجاعية شرقي مدينة غزة، وشرقي بيت لاهيا شمال القطاع. وتأتي هذه التطورات، في حين يتفاقم الوضع الإنساني، حيث يسيطر الاحتلال على ما يُقارب الـ52% من أراضي غزة، مما يعوق تدفق المساعدات ويزيد من معاناة الأهالي والسكان. وأدت تصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير بأن "الخط الأصفر" أصبح الحدود الجديدة لغزة إلى العديد من ردود الفعل وأبرزها من الامم المتحدة التي أكدت على لسان أمينها العام ستيفان دوجاريك رفضها الحازم لأي تغيير في حدود القطاع. من جهتها، شدّدت حركة "حماس" على أن الانتقال إلى المرحلة الثانية مرهون بتنفيذ إسرائيل التزامات المرحلة الأولى كاملة، خاصة فتح معبر رفح وإدخال 4 آلاف وحدة إيواء ووقف الهدم والقصف.
وتكثف واشنطن من ضغوطها لدفع المباحثات قدمًا رغم العثرات والعقبات التي تطرح أكثر من سؤال بشأن خطة ترامب وقابليتها للحياة والتطبيق، وهو ما سيكون على طاولة البحث خلال لقاء ترامب – نتنياهو، في ظل محاولة الاخير من أجل الحصول على مكاسب ما خاصة أنه يخوض معركة من أجل اسقاط التهم المتعلقة بالفساد والرشاوى التي يواجهها منذ سنوات. وتترافق هذه الوقائع مع تصعيد "مدروس" في الضفة الغربية، إذ يرّوج الاحتلال لسردية اعتقال خلايا إرهابية بهدف استكمال عملياته. وكان الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) أعلنا، في بيان مشترك، أن اعتقال خلية مسلحة في طولكرم قاد إلى صواريخ وأسلحة مخصصة لضرب أهداف في وسط إسرائيل. وواصل الاحتلال هجومه الواسع في الضفة، واقتحم رام الله وبيت لحم والخليل ونابلس وجنين وسلفيت وقلقيلية، واعتقل أكثر من 40 فلسطينيًا. يأتي ذلك فيما هاجم مستوطنون منازل وممتلكات فلسطينيين في عدد من مناطق الضفة، خاصة في الخليل وشمالي رام الله.
على صعيد أخر، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على جهات اتهمتها بتأجيج الحرب في السودان، مستهدفة ما وصفتها بشبكة عابرة للحدود تُجند عسكريين كولومبيين سابقين وتدرب جنودا بينهم أطفال للقتال في صفوف "قوات الدعم السريع". وذكرت وزارة الخزانة الأميركية، في بيان، أنها فرضت عقوبات على 4 أفراد و4 كيانات ضمن الشبكة، التي قالت إنها تتألف في معظمها من مواطنين وشركات كولومبية، مُدينة العنف الذي استهدف "المدنيين بمن فيهم الرضع والأطفال الصغار، وقتل الرجال والفتيان بشكل منهجي". أما في الشؤون الدولية، فالخلافات بين واشنطن وكييف تطفو على السطح بظل الضغوط التي يمارسها الرئيس ترامب على نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من أجل الموافقة على الخطة المطروحة لإنهاء الحرب.
وفي اخر التفاصيل، دعا الرئيس الأميركي إلى إجراء انتخابات جديدة في أوكرانيا. من جهته، قال الرئيس زيلينسكي إن بلاده وشركاءها الأوروبيين سيكونون مستعدين قريبًا لتقديم "وثائق منقحة" للولايات المتحدة بشأن خطة السلام المطروحة، مؤكدًا استعداده لإجراء انتخابات، داعيًا الولايات المتحدة وأوروبا إلى المساعدة في توفير الأمن للانتخابات خلال الحرب. يُذكر أن ترامب لا يوفر فرصة إلا ويشّن هجومًا على الأوروبيين، في إنقلاب على السياسات المعهودة، إذ وصفهم، أمس، بأنهم مجموعة دول "متحللة" يقودها أشخاص "ضعفاء"، منتقدًا ما اعتبره إخفاقًا أوروبيًا في السيطرة على الهجرة وإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
الاحداث الطارئة والمستجدات ركزت عليها الصحف الصادرة اليوم في العالم العربي. ويمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:
كتبت صحيفة "الغد" الأردنية "العلاقات بين الأردن وإسرائيل حافلة بالتناقضات، إلا أن مسارها السياسي يبدو متدهورًا، مقارنة بالمسار الفني واللوجستي، فيما يعتبر الأردن ان الخطوات الإسرائيلية تأتي ضمن حزمة توجهات تهدد الأردن مباشرة، على صعيد ما يجري في الضفة الغربية والتهديد بتهجير الفلسطينيين الى الأردن، وما يتعلق بملف المسجد الأقصى الذي يديره الأردن أيضا، وسط تقديرات أن عام 2026 سيشهد المزيد من التصرفات الإسرائيلية الخطيرة الموجهة ضد الأردن"، مستنتجة أن "هناك توقعات بحدوث تدهور أكبر خلال الفترة المقبلة، في ظل توسع إسرائيل في مشروعها الإقليمي، وإشهارها للعداوة بشكل غير مسبوق، بما يعنيه ذلك من نتائج".
صحيفة "عُمان" العُمانية، من جانبها، تطرقت إلى الأوضاع في اليمن و"شعبه الذي يعاني الأمرّين من خلال حرب استنزاف أسفرت عن تقسيم فعلي للبلاد، حيث تسيطر جماعة "أنصار الله" الحوثيين على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات الشمالية، في حين تسيطر الحكومة الشرعية على العاصمة الاقتصادية عدن بموقعها الفريد". وقالت "إن الحروب والصراعات الأهلية تؤدي إلى كوارث حقيقية، وتحول تلك الدول إلى دول فاشلة، وتجعل الشعوب أكثر معاناة. وفي غياب الإرادة السياسية الوطنية في الداخل تكون الأطماع والتدخلات الخارجية أكثر سهولة؛ فالموقع الجغرافي والثروات تكون عوامل جاذبة لتلك الأطماع في ظل الجبهات الوطنية الداخلية الهشة".
أما صحيفة "الصباح" العراقية، فتطرقت إلى ما حدث على صعيد "حزب الله" وحركة "انصار الله" في قوائم الإرهاب، مشيرة إلى أن "القضية ربما تكون أعمق وابعد من مجرد خطأ عابر، لان مثل تلك الأخطاء، لا يمكن أن تمرّ وتأخذ طريقها بيسر وسهولة عبر حلقات متعددة، دون ان يتوقف احد عندها. وهذا ما ينبغي ان تبحث فيه اللجنة أو اللجان التحقيقية المشكلة من قبل رئيس الوزراء، للوقوف على حقيقة ما حصل، وكيف حصل، ولماذا حصل؟"، مبدية استغرابها وانتقادها الشديدين، إذ اعتبرت أنه "من غير المعقول ولا المنطقي ولا المقبول، أان يصنف من قاوم وواجه الإرهاب الداعشي والإرهاب الصهيوني، بأنه إرهابي، بينما يرشح من ساهم في قتل المقاومين والأطفال والنساء، وتشريد المدنيين الأبرياء، وتدمير العمران، لنيل جوائز السلام!"، على حدّ تعبيرها.
في سيّاق أخر، رأت صحيفة "الثورة" السورية أن "الحكومة السورية الحالية تردك أنها تمتلك أوراقًا للقوة تستطيع الاستفادة منها في عملية التفاوض، سواء في ملف الجنوب السوري مع إسرائيل أو في ملفات أخرى"، موضحة أن من ضمن هذه الأوراق "الموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي يتيح لعب أدوار توفيقية بين دول الجوار من جهة، ولعب دور في استقرار المنطقة من جهة أخرى، وهو دور تدركه القوى الإقليمية خاصة تلك الداعمة لاستقرار سوريا وتراه جزءًا من استقرارها، كما تدركه الولايات المتحدة وإدارة ترامب الذي بنى استراتيجيته في الشرق الأوسط على إبعاد إيران واستقرار المنطقة، حيث يرى في استقرار سوريا مفتاحًا لهذا الاستقرار".
(رصد "عروبة 22")

