صحافة

أوروبا العالقة بين واشنطن وبكين

حسام ميرو

المشاركة
أوروبا العالقة بين واشنطن وبكين

لم تتمكن أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من الاستقلال أمنياً، فبقيت تحت مظلة واشنطن، في الوقت الذي غزت فيه الصناعات الصينية الأسواق الأوروبية، وبين واشنطن وبكين، تجد أوروبا نفسها عالقة في تناقضات العصر الرقمي، وعاجزة عن بناء استقلال استراتيجي فعلي، في قرن سمته الأساسية تقاطع التكنولوجيا مع السياسة، وبذلك، فإن أوروبا التي أسهمت خلال القرن الماضي في صياغة النظام الدولي، تتحوّل أكثر فأكثر لتكون ساحة تنافس بين قوتين عظميين تتنافسان على صياغة النظام الدولي الجديد، وهو ما يطرح على القارة العجوز سؤال المكانة والدور والفاعلية، وسط حالة انقسام تتجاوز قدرة أوروبا على اختيار مكانتها ودورها وفاعليتها.

اعتقد الأوروبيون، لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، أنهم وجدوا أخيراً طريق الخلاص من الانقسام التاريخي بين الشرق وبين الغرب، وبدؤوا رحلة الاستعداد لتوسيع الاتحاد الأوروبي، وصياغة هوية جيوسياسية جديدة، لكن لم تكن تلك اللحظة إلا مجرد فاصل زمني قصير تاريخياً، في مرحلة لم تعد فيها المواجهات الكبرى ذات طابع عسكري بالدرجة الأولى، كما أثناء الحرب الباردة، وإنما مواجهة تكنولوجية واقتصادية ورقمية، وأنه لا مفرّ من التعاطي مع الشرط الموضوعي الذي فرض الصين قوة صاعدة، لا تصعب منافستها في الأسواق فقط، وإنما تشكّل ضرورة حيوية لمنظومة الاستهلاك الأوروبية نفسها.

دخلت الصين بقوة إلى أوروبا بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، واستثمرت في البنى التحتية والموانئ من ميناء بيرايوس في اليونان إلى السكك الحديد في البلقان، في منحى تمدّد تصاعدي، مدعوم بفوائض مالية صينية، وخبرات صناعية متقدّمة، ورؤية لمستقبل التجارة العالمية عبر مبادرتها "الحزام والطريق"، وقد انكشف عمق الاحتياج الأوروبي للصين في أزمة كوفيد، حين تعثّرت سلاسل الإمداد نتيجة الأزمة الوبائية، وأوشكت مخازن السلع اليومية في أوروبا أن تصبح فارغة، في الوقت الذي تصاعد فيه ضغط واشنطن على أوروبا لزيادة حجم إنفاقها الدفاعي في حلف الأطلسي، وصولاً إلى الضرائب التي فرضتها إدارة ترامب مؤخراً على السلع الأوروبية، في اتفاق منحه محللون كثر اسم "اتفاق الإذلال".

ولم تكد أوروبا تتنفّس الصعداء، وتحاول ترميم خسائرها الاقتصادية، بعد أزمة كوفيد، حتى اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا، واضعة القارة بأكملها أمام مأزق استراتيجي حاد؛ إذ لا تستطيع أوروبا الاستغناء عن المنظومتين العسكرية والأمنية اللتين توفرهما لها واشنطن. في مواجهة هذه الحالة، تحاول برلين وباريس في السنوات القليلة الماضية، العمل على صياغة سياسات خارجية أكثر استقلالية، لكنهما مع كل خطوة في هذا الطريق يواجهان بضغوط أمريكية متعددة، لا تتعلق فقط بأفكار المشاريع الدفاعية الاستقلالية التي لم تر النور، مثل دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي، لكن أيضاً ضغوط باتجاه الانفصال التكنولوجي عن الصين، في الوقت الذي تدرك فيه أمريكا نفسها أن هذا الأمر غير ممكن، حيث تعتمد الشركات الأوروبية في صناعاتها على المكوّنات المستوردة من الصين.

محاولة أوروبا البقاء في حالة توازن بين التبعية العسكرية والأمنية لواشنطن، والاحتياج الاقتصادي والتكنولوجي لبكين، يتجلى داخل أوروبا بأزمات سياسية واحتجاجية وتحوّلات في الخطاب وعودة للنزعات القومية، خصوصاً في ألمانيا التي تمكن فيها "حزب البديل" اليميني المتطرّف من موضعة نفسه بقوة في المشهد السياسي، وكذلك في إيطاليا، التي وصل فيها حزب "إخوان إيطاليا" اليميني إلى الحكم، بقيادة جورجيا ميلوني، مع ازدياد التوقّعات بأن تؤدي الحرب التجارية بين واشنطن وبكين إلى تآكل الصناعات الأوروبية، التي تخلّفت عن ركب الابتكارات الصينية، أو مجاراة النزعة الحمائية الأمريكية، وأمام هذين التحديين، ثمة من يستشعر مخاطر تحوّل أوروبا إلى سوق مستهلكة للمنتجات الصينية، وتراجع قدرة المنافسة في الأسواق الدولية، التي تهيمن بكين على جزء كبير منها.

أوروبا التي اعتُبرت أنها ضمن الفريق الغربي الرأسمالي المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية، وتمكنت بفضل التحالف الاستراتيجي مع واشنطن من موضعة نفسها كقوة رائدة في النظام الدولي والأسواق العالمية، تجد نفسها اليوم متأخرة عن المعادلات الجديدة التي تشكّل عصب الاقتصاد العالمي.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن