ما الذي يتوخى اللبنانيون اجتنابه في حاضر هذه الأيّام؟ هل المطروح – وبالتالي المراد اجتنابه – هو حملة تدميرية إسرائيلية شاملة جديدة تقارن بشهري "حرب التحطيم" الفاصلة ما بين "حرب الإسناد" (أكتوبر 2023- سبتمبر2024) وبين "وقف الإطلاق من جانب واحد" أي الحرب الأحادية المستمرة منذ عام كامل وبلا كلل من الجانب الإسرائيلي، ومن دون أي احتمال ردّ من جانب "حزب الله"؟
ما نصطلح على تسميته هنا "حرب التحطيم" المقصود به تلك المرحلة الحاسمة التي خرجت فيها "حرب الإسناد" عن مألوفها المخادع طيلة الأشهر العشرة التي سبقتها ـ والخدعة الذاتية كانت أن حرب الإسناد يمكنها أن تطول على هذا النحو ولا تعطي مجالاً للعدو كي يذهب بعيداً ويستهدف البنى التحتية الأساسية للحزب في إطار صراع شامل. لقد جرى في هذه الحرب التنكيل بآلاف الكوادر على أوسع نطاق من خلال تفجير أجهزة النداء، وتصفية طاقم قيادات الصف الأول والثاني في "الحزب" وتدمير عشرات آلاف الوحدات السكنية وجزء غير يسير من ترسانة الصواريخ إن لم يكن معظمها. فماذا يعني بالتالي أن يشعر اللبنانيّون اليوم، ولو بأشكال وصيغ مختلفة، بأنّ "حرب وقف إطلاق النار من جانب واحد" باتت تتعثر أكثر فأكثر، وأن خطر "حرب تحطيم ثانية" لا يمكن استبعاده بذريعة عدم التهويل على الذات؟
لقد جاء اتفاق وقف إطلاق النار ليحدّ من الأعمال القتالية المكثفة، لكنه عملياً لم يحل أي مشكلة، ومن بعد سقوط نظام آل الأسد في سوريا زادت إسرائيل من تفسيرها الأحادي للاتفاق، بمثل ما توسعت في الداخل اللبناني وعربياً وغربياً المطالبة بنزع سلاح "الحزب". مقارنة بالوضع عشية هجمات أجهزة النداء فقد تضاعفت عزلة "حزب الله" خارج المجال الشيعي. أما من ضمن هذا المجال فإنه من الاستعجال بمكان تقدير الهمس وملامة الحاضرين بكثافة وعلى أوسع نطاق على أنهما بداية لخروج حقيقي على النموذج الذي أرساه هذا الحزب ضمن الطائفة. غياب حسن نصر الله لا يجعل الانفكاك عن نموذجه سهلاً لدى الشيعة، لكن صعوبة الانفكاك لا تجعل نصر الله حاضراً إلا كغائب.
ما زال "حزب الله" يظهر ما تيسّر من غريزة بقاء، لكن تحويل هذه المثابرة إلى واقع حيوي متجدد ليس من الواضح كيف له أن يتمّ. لم تعد للحزب تغطية رسمية لا في بيان قسم ولا في بيان وزاري، لا بل صارت الحكومة تتعهد بنزع سلاحه وهو يبحث عن عراضات يكسر فيها "رمزياً" إرادتها. كيف يمكن بعد ذلك الاستبشار بأن مقاتلي الحزب يمكنهم اليوم إحراز نتائج لم يحققوها في المواجهة الحامية الماضية؟
لقد صارت وراءنا تلك المرحلة التي يمكن أن يؤرّخ لها بين انسحاب إسرائيل من نطاق توغلها البري المحدود في حرب تموز 2006 وما بين دخول حزب الله في حرب إسناد غزة في خريف 2023 وهي المرحلة المتصفة بهدوء الجبهة الجنوبية في مقابل مضاعفة عديد قوات اليونيفيل، في مقابل إعادة بناء حزب الله أنفاقه ومنشآته وترسانته في المنطقة الحدودية في سهو عن اليونيفيل. وكل خارطة أوهام يطرح صاحبها كيفية أن يعود أدراجه الى الواقع الجنوبي واللبناني الحاصل بين تموز 2023 وخريف 2024 ليست سوى مكابرة بلا طائل. هناك مواقع وتلال تحتلها إسرائيل اليوم. هناك منع منهجي لإعادة إعمار المناطق المنكوبة. وهناك مشاحنة في الداخل أي الطريقين أجدى، المقاومة العسكرية أو التفاوض؟
المفارقة أن هذه المشاحنة تتواصل في الوقت نفسه الذي يظهر فيه أنه لا المقاومة العسكرية قادرة ولا التفاوض الديبلوماسي قادر على إعادة الجيش الإسرائيلي الى ما وراء الخط الأزرق اليوم. إذاً؟ لا يمكن إعادته؟ إلا بمفاوضات مباشرة؟ هل هذا ما هو مطروح اليوم؟ ليس مطروحاً أقله أن تنسحب إسرائيل بانسيابية الى ما وراء الخط الأزرق. من الصعب التخيل – في المقابل – كيف يمكن لبنان بهذه الهشاشة أن يذهب الى تفاوض مباشر مع إسرائيل؟ أما المقاومة المسلحة فربما كانت تكثر من خطاب أنها لن تترك "الإسرائيلي يتوغل بعد أكثر"، لكنه لا يظهر كيف لها أن تسترجع ما تحتله إسرائيل جنوباً، ولا أن تقلع بحماية عملية إعادة الإعمار في ظل تكرار التصريحات الإسرائيلية بهذا الخصوص.
طالما أن إسرائيل تضرب و"حزب الله" لا يرد، فهذا لن يبدل نوعيا مما يحصل منذ عام في صيغة "حرب وقف إطلاق النار". إسرائيل تركز على ضرب ما للحزب. والحزب يركز على ما يسميه "استعادة التعافي". لكل عالمه. لكن دينامية التصعيد الإسرائيلي في الأيام الأخيرة تنذر بأسابيع أكثر سوءا. وهي تشي بأن نوعية الاستهداف الإسرائيلي المحتملة ليس هدفها الضرب المتواصل حتى سحب سلاح الحزب وإنما رفع نوعي لمستوى الضغط على الدولة والمجتمع اللبنانيين ورفع مستوى الضغط الداخلي المدعوم أمريكيا وعربيا على الحزب. أي أن ما يحرك إسرائيل ليس شيئا من قبيل "لم ينجز الجانب اللبناني المطلوب منه وعادت الكرة إلى ملعبنا".
يقف لبنان عند نقطة حساسة. اجتناب حرب تحطيمية جديدة هو مصدر لانتظار وقلق متواصلين. في الوقت نفسه، فإن خطر الشقاق الداخلي ليس واهياً. الانقسام على خلفية الموقف من "حزب الله" وسلاحه يزيد يوماً بعد يوم بالنسبة إلى "المجتمعات اللبنانية" المتداخلة. هناك من يكابر، ويحسب أنه ما زال قادراً على اعتراض سبيل نزع السلاح كجملة. وهناك في المقابل من ينادي على سحب السلاح ويكابر على واقع أهلي ليس من السهل فك الارتباط بينه وبين هذا السلاح حتى الآن. في وضع هذا، شبح تجدد الحرب الشاملة هو شبح يصنع للناس أوقاتها وأيامها.
(القدس العربي)

