يصحو اللبنانيون وينامون على تساؤلات حول ما سيحمله لهم الآتي من الأيام، وسط جمود سياسي واضطراب اقتصادي... وقلق مبرَّر من المستقبل. وفي المقابل، تتصاعد ضغوط واشنطن لترتيب "الجزء اللبناني" من المعادلة الإقليمية، طبعاً في ظل تلازم الاعتبارات الأميركية والإسرائيلية. وبشأن هذا التلازم، وعلى الرغم من تعدّد "الأسماء اللبنانية" التي تضمّها أجهزة الدبلوماسية والتواصل الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، لا غبار على ولاء تلك الأسماء المطلق لمصالح واشنطن... أولاً وأخيراً.
مع هذا، يظل اللبنانيون داخل لبنان يحلمون بأدوارٍ كبيرة يلعبها إخوتهم المغتربون داخل أروقة القرار السياسي الأميركي. بل يشمل هذا "الحلم شبه المستحيل" أيضاً كثيرين من مغتربيهم الذين راهنوا إبّان حملة الرئيس دونالد ترمب الانتخابية لولايته الرئاسية على أن تكون لعلاقات "المصاهرة" وصفقات "البيزنس" فرصة للتأثير إيجاباً عليه. ولكن، كالعادة، تنجلي الأمور الآن على أن رهانهم - أو قُل رهان قسم كبير منهم - كان خاطئاً... وأن طموحهم كان في غير محله، وسط ثوابت لا يريدون الاعتراف بوجودها.
بدايةً، ثمة "مشكلتان"، الأولى "مشكلة لبنانية" أصلاً وفصلاً، والثانية "مشكلة عربية – إسلامية"، وراء استمرار السقوط في هوة الحسابات الخاطئة. فيما يخصّ "المشكلة الأولى"، ومع مواصلة التأكيد على أساسيات "مؤسسة السلطة" الأميركية، ومكانة ما يُسمى "القيم اليهودية – المسيحية المشتركة" في بناء الثقافة المصلحية لليمين الأميركي المحافظ، فإن ثمة فوارق كبرى في الولاء السياسي والمنظور الإقليمي بين "المهاجرين اللبنانيين القدامى" الذين تتشكل غالبيتهم من المسيحيين، و"اللبنانيين الأميركيين الجدد". وهؤلاء "اللبنانيون الأميركيون الجدد" هم الذين هاجروا منذ الحرب العالمية الثانية - بل خصوصاً الذين هاجروا منذ الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف سبعينات القرن الماضي – وجلّ هؤلاء من المسلمين على تنوّع طوائفهم.
للعلم، "المهاجرون القدامى" دائماً وأولادهم وأحفادهم، نظرتهم إلى لبنان وهويّته السياسة والقومية والدينية تختلف اختلافاً بيّناً عن نظرات المُهاجرين في الفترات اللاحقة، ولا سيما، بعد الحرب الأهلية (1975 - 1990). وهناك جانب آخر يستحق التنبّه إليه هو أن "المهاجرين القدامى" قد "تأمرَكوا"، عموماً، وبالتحديد المسيحيون منهم. ومن ثم، انسجموا ضمن «الثقافة السياسية الأميركية المسيحية البيضاء» – والجمهورية، خاصةً، إذا كانوا من أصحاب الأعمال الناجحين. بيد أن قطاعاً كبيراً من "اللبنانيين الأميركيين الجدد" لا يزال حريصاً على هويته الدينية، وهذه الهويّة تتعزّز أكثر فأكثر بالتوازي مع المؤثّرات الإقليمية – الإسرائيلية والإيرانية... والتركية أخيراً.
هذا الواقع ينعكس حالياً، على ما يبدو تنافراً بين: ما يطرحه "وسطاء" ودبلوماسيون أميركيون منهم ناشطون يهود مثل جاريد كوشنر ومورغان أورتاغوس، ودبلوماسيون ومستشارون "لبنانيون" مسيحيون مثل توم برّاك ومسعد بولس والسفير الجديد لدى بيروت ميشال عيسى من جهة، وبين ما تتشبّث به قوى لبنانية تتمتّع بحضورين سياسي وعسكري وصلات إقليمية من جهة ثانية. والحقيقة أن واشنطن وتل أبيب تدركان جيداً هشاشة التركيبة اللبنانية، وتعرفان تماماً الاعتبارات المحلية الدقيقة في بلد الـ"18 طائفة"... لكنهما مع هذا تتصرّفان بطريقة "تجاهل العارف".
كمثال، تفهم واشنطن وتل أبيب جيداً طبيعة دور إيران المؤثر جداً في السياق الشيعي على مستوى الشرق الأوسط كله، وليس فقط في لبنان. إلا أنهما، مع ذلك، تضغطان على الحكم اللبناني من دون اكتراث ظاهر بما قد تتحمّله أو لا تتحمّله صيغة هذا الحكم التوافقية الحالية. أكثر من هذا، تأتي هذه "المقاربة الضاغطة" بينما يدخل العراق استحقاقاً انتخابياً حساساً لجهة اختبار حجم نفوذ طهران على أرضه... وهو نفوذ جاءت به أصلاً السياسة الأميركية – الإسرائيلية عام 2003. وأيضاً، بعدما جرى تقليم أظافر "نظام الملالي" في سوريا التي يرى كثيرون أن "هويتها السياسية" البديلة لم تتبلور بعد، وسط "تجاذب" تركي – إسرائيلي لا يجوز التقليل من شأنه.
هنا نصل إلى "المشكلة الثانية" من المشكلتين المُشار إليهما سابقاً... أي التعامل مع البُعد العربي - الإسلامي للخلفية المؤثّرة على الوضع اللبناني. واضح، للأسف، أن الضغط الأميركي – الإسرائيلي على لبنان، لا يأخذ بعين الاعتبار ما حصل في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ولا ما تهدّد به مواطني الضفة الغربية - وما هو أبعد منها - تصريحات عدد من الساسة الإسرائيليين عن "إسرائيل الكبرى"، بدءاً بإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش... وانتهاء بـ"بسوس" الاستيطان المتطرفة دانييلا فايتس!
وباعتقادي، ينبغي أولاً وقبل أي شيء، التساؤل عن مدى قدرة الرئيس ترمب على "إقناع" متطرّفي اليمين الليكودي والتوراتي الإسرائيلي بالسير قدماً بمشروعه الإبراهيمي... بينما يرفع هؤلاء خرائط التهجير والاقتلاع والتوسع والاستيطان. نعم، سيصعب تخيّل العواقب إقليمياً – لا لبنانياً فحسب – ما لم يقرّر البيت الأبيض وضع حد لعربدة هذا التيار، الذي يدرك اليوم قطاع لا بأس منه من يهود العالم العقلاء، أنها صارت عبئاً ثقيلاً وخطراً فعلياً على يهود العالم...
قبل تهديد الحكم اللبناني المسكين، الخطوة منتظرة الآن من واشنطن، وليس أي عاصمة عالمية أخرى، بالتزام جدّي بسلام حقيقي ومتكامل في المنطقة. أما التلهي بفتح معارك جانبية للتمويه على أساس الأزمة... فسيفاقمها ويزيدها تعقيداً.
(الشرق الأوسط)

