ي مثل هذه الأيام منذ عام تقريباً أنتُخب المرشح الجمهوري دونالد ترامب رئيساً أمريكياً لولاية ثانية، لكن فوزه هذه المرة لم يكن فوزاً تقليدياً، حيث وصفه أنصاره بأنه "فوز أسطوري"، لأن فوزه بالرئاسة جاء مقترناً بفوز الحزب الجمهوري فوزاً كاسحاً بأغلبية مجلسي الكونغرس: الشيوخ والنواب.
كان هذا يعني أن ترامب، والجمهوريين، باتوا يسيطرون سيطرة كاملة على القرار السياسي ومقاليد السلطة في الولايات المتحدة، مقابل انزواء وانحسار نفوذ الحزب الديمقراطي، خاصة مع اختيار ترامب نائباً شاباً له من صفوف نجوم الكونغرس الجمهوريين، هو "جيه دي فانس"، الذي أخذت تتجه الأنظار نحوه كمرشح جمهوري محتمل قادر على الفوز في الانتخابات الرئاسية عام 2028.
كان الدافع الرئيسي لبروز ما أخذ يُعرف بـ"الترامبية السياسية"، وهي تعني أن ترامب تحول من شخص حاكم إلى منظومة فكرية وتيار سياسي له معالمه المحددة القادرة على "صنع المستقبل"، وله شعاره المحوري "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى"، وله منظمته السياسية التي تتحدث باسمه وهي حركة "ماغا" التي قادت حملته الانتخابية، وحولت ما كان يوصف بـ"الشعبوية" إلى رؤى وأفكار سياسية، أبرز ما فيها أنها سوف تستمر بعد نهاية ولاية ترامب عام 2028، أي مع الانتخابات الرئاسية المقبلة. الأهم من هذا كله، أنه قبل أن ينقضي العام الأول من ولاية ترامب أخذ سؤال مهم يفرض نفسه في ظل تسارع تراكم مؤشرات توحي بانحسار الظاهرة "الترامبية" وهو: هل مازال للترامبية السياسية أفق ومستقبل سياسي في الولايات المتحدة؟
المؤشرات الجديدة تجيب على هذا السؤال بالنفي، أي أن "الترامبية السياسية" أخذت تواجه تآكلاً في جدارتها ومصداقيتها الشعبية، في ظل التفكك الذي يواجه حركة "ماغا" من ناحية لأسباب كثيرة منها: الانقسام حول التأييد الأعمى لإسرائيل في ظل تحولات شعبية ونخبوية أمريكية وعالمية أضحت تعمل في غير صالح إسرائيل، ومن ناحية أخرى لتراجع الدعم الشعبي لترامب والحزب الجمهوري ولحركة "ماغجا" بسبب سياسات تراها قطاعات واسعة شعبية ونخبوية خاطئة وتعمل في اتجاه عكسي لشعار "فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
مؤشرات التحول العكسي أضحت كثيرة وتقول: إن فرص فوز الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية، وانتخابات الكونغرس عام 2028 باتت محدودة إن لم تكن معدومة، بل إن فرص نجاح الجمهوريين في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بعد عام واحد من الآن، أي في نوفمبر تشرين الثاني عام 2026 لن تكون مواتية، ليس لأسباب إيجابية تخص الديمقراطيين، بل لأسباب سلبية تتعلق بالجمهوريين وبالإدارة الجمهورية التي تحكم في البيت الأبيض.
فالأشهر القليلة الماضية، التي يمكن وصفها بـ"الصاخبة" من حكم ترامب خلقت قناعة آخذة في الترسيخ لدى الأمريكيين أنفسهم، وليس فقط لدى شعوب واسعة من العالم أن أبرز سمات حكم ترامب هو "الحكم الاستبدادي"، فحسب ما دوّنه الكاتبان الأمريكيان: "ديفيد داربى وجيمس نيلسون" فى (كاونتر بانش)، فإن لدى الولايات المتحدة الآن "رئيساً ينتهك بشكل شبه يومي قوانين البلاد، والإجراءات المطلوبة، والدستور الأمريكي بحكم أوامر تنفيذية غير قانونية في كثير من الأحيان" و"كونغرس يسيطر عليه الجمهوريون لا يفعل شيئاً للتحقق من إساءة استخدام الرئيس للسلطة، ولا يتخذ أي إجراء لمنع الرئيس من اغتصاب سلطته الدستورية" و"محكمة أمريكية عليا تواصل تمكين السلوك غير القانوني للرئيس".
التعبير الشعبي عن هذه المعاني جاء عبر ظهور حركة أعطت نفسها اسم "لا ملوك" انتشرت في أنحاء البلاد، تروج لمقولة أن "الرئيس يعتقد أن سلطته مطلقة، لكن في أمريكا ليس لدينا ملوك، ولن نستسلم للفوضى والفساد والقسوة"، وأخذت تتزعم الدعوة للتظاهر في العشرات من الولايات الأمريكية، في وقت تورط فيه الرئيس بالدفع بقوات من الحرس الوطني والجيش، للانتشار في كثير من الولايات الأمريكية لمواجهة ما يسميه بـ"العدو الداخلي"، ويقصد بذلك تيار اليسار في الحزب الديمقراطي.
وسط هذه التحولات تعرض الرئيس الأمريكي لصدمتين هائلتين: الأولى تمثلت في اغتيال من كان يسميه بـ"حلمه السياسي" وهو الشاب "تشارلي كيرك"، الذي كان يقود التيار اليميني الشبابي الداعم للرئيس ترامب. اغتيال "تشارلي كيرك" كان فجيعة هائلة للرئيس ترامب، الذي تقول معلومات إنه كان يُعوِّل عليه كنائب محتمل للرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2028. الصدمة الثانية، أو الفجيعة الثانية هي اكتساح الديمقراطيين ثلاثة سباقات في أول انتخابات أمريكية رئيسية منذ عودة ترامب للسلطة في فرجينيا ونيوجيرسي، لكن أهمها كان الفوز الذي تحقق في مدينة نيويورك، الذي حققه المرشح الشاب الاشتراكي زهران ممداني، الذي يُعد فوزه مؤشراً على تحولات خطِرة سوف يتسع انتشارها في كثير من الولايات الأمريكية.
تحولات كثيرة وعميقة تؤكد كلها أن الظروف بل والواقع لم يعد ملائماً للحديث عن مستقبل واعد لـ"الترامبية السياسية".
(الخليج الإماراتية)

