مصر في نظام عالمي يتشكّل

المقصود بنظام عالمي يتشكّل هو أنّ في العالم بنى نشأت في العقود الأخيرة آخذة الآن في الترسخ، وبنى وعلاقات جديدة تحاول في الوقت الحالي أن تظهر إلى الوجود فيه وأن تتبلور. بمرور الوقت وحسبما تؤول إليه البنى والعلاقات المترسخة والجديدة سيتحول النظام الدولي الذى خبره العالم في العقود الأخيرة إلى نظام عالمي جديد. لا يوجد تمييز قاطع بين النظام الدولي والنظام العالمي. مع ذلك يمكن القول بأن النظام الدولي هو ذلك الذي تكون وحداته الأساسية هي الدول، ومنها يصدر التعاون فيما بينها. في المقابل، النظام العالمي هو ذلك الذي تتطلع فيه الدول وغيرها من الفاعلين إلى العالم كوحدة واحدة.

(...) أين مصر من الاشتراك في تشكيل مبادئ النظام العالمي الجديد وقواعده؟ ليس واردا أن نستعرض هنا حالة كل من المتغيرات المذكورة أعلاه. يكفي أن نلقي نظرة إجمالية على الوضع الداخلى وعلى الموارد الملموسة وغير الملموسة المتوفرة لمصر في الوقت الحالى. داخليا، مصر مثقلة بدين عام غير مسبوق لا يترك في الميزانية مجالا لأي سياسات تنموية أو اجتماعية مؤثرة، خاصة في ظل التضخم القياسي الذى تآكلت من جرائه القوة الشرائية للنقود فتراجعت مستويات المعيشة وارتفعت معدلات الفقر كثيرا، لا محالة، وإن لم تجمع البيانات عنها. آخر معدل منشور كان 29,7 في المائة في سنة 2020. معدل الادخار بائس، كان 10,8 في المائة في سنة 2021 عندما بلغ متوسط معدل الادخار في العالم الـ23,6 في المائة. قارن معدلنا بمعدلات الهند وفيتنام والصين في نفس السنة، وهى كانت 30,2 في المائة و36,1 في المائة و49,9 في المائة على التوالي. خدمة الدين تمثل 56 فى المائة من النفقات العامة في الميزانية الحالية. خدمة الدين الخارجي، الاقتصاد غير قادر عليها فتلجأ الدولة إلى مزيد من الاقتراض، ولأن هذا الاقتراض بعيد عن أن يكفي لخدمة الدين فهي تضطر إلى التعجل في بيع أصولها. عندما تنشئ الدول صناديق سيادية، فإن هذه الصناديق تستثمر وتشتري الأصول في هذه البلد أو في تلك القارة، أو فى غيرهما. على عكس كل الصناديق، الصندوق المصري لا يستثمر ولا يشتري. هو يبيع، متلهفا على البيع! وحتى مع هذا التلهف فهو لا يقدر على جمع الحصيلة المستهدفة بسبب عدم الاستقرار النقدي الذى يبعد المشترين والمستثمرين. التلهف في بيع الأصول يرجع إلى أن الدولة تدرك أن مواردها الملموسة من حصيلة صادراتها من السلع الزراعية والصناعية والخدمات بعيدة جدا عن أن تفيد في خدمة الدين الخارجي. أى غرابة في ذلك مع تدني معدل الادخار؟! نلحظ هنا أن تدني معدل الادخار هو السبب في الاقتراض والاستدانة. غير أن الاستدانة لم تفد في نمو الإنتاج من السلع والخدمات الذي يسمح بدوره بنمو الصادرات، وبذلك بخدمة الدين الخارجي.

كيف يمكن فى هذا الوضع الاقتصادي، الإنتاجي والمالي والنقدي، أن تشترك مصر في صياغة مبادئ النظام العالمي الآخذ في التشكل وقواعده؟ هل يمكن الركون إلى الموارد غير الملموسة وهى كانت مما يعتد به بين موارد البلدان النامية التي صارت تسمى الآن بالجنوب العالمي؟ حالة التعليم لا تسر أحدا، يعيشها الشعب المصري ويعرف بها. البحث العلمي وحريته كانا ضمن قضايا الحوار الوطني، وهو ما يعني أنهما يواجهان العراقيل رغم أهميتهما القصوى لصياغة السياسات الرشيدة التي تؤدي إلى تلبية احتياجات الناس، فضلا عن استغلال إمكانياتهم، وإلى تنمية البلاد. الإنفاق على البحث العلمى كان متوسطه 0,46 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي فيما بين سنتي 1996 و2020، وإن حقق قفزة معتبرة في هذه السنة الأخيرة مسجلا 0,96 في المائة. ومع ذلك، ولمجرد المقارنة، أنفقت جمهورية كوريا (الجنوبية) 4,81 فى المائة وإسرائيل 5,44 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لكل منهما على البحث العلمي في نفس سنة 2020! مستوى التعليم والبحث العلمي، خاصة في المجال الاجتماعي، وحرية الفكر والتعبير، تترجم كلها إلى أفكار ترفع من مستوى النقاش العام وتسهم في رسم السياسات وإيجاد الحلول للمشاكل التي تعاني منها مصر، وتشترك بها في صياغة المبادئ التي تحكم العلاقات بين الدول وقواعدها في أوقات التأسيس والمراجعة. في سنة 1945 في مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو رأس الدكتور عبدالحميد بدوي اللجنة المعنية بالترتيبات الإقليمية، وهي التي صارت مخرجاتها الباب الثامن من ميثاق الأمم المتحدة. في سنة 1964، بعد تصفية الاستعمار التقليدي وعند التصدي لإعادة هيكلة العلاقات الاقتصادية الدولية نحو إضفاء مزيد من العدالة على التجارة الدولية وتصنيع الدول حديثة الاستقلال، إلى جانب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) نشأت منظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية واختير الدكتور إبراهيم حلمي عبدالرحمن أول مدير تنفيذي لها. هل الأمل معدوم في الموارد غير الملموسة لمصر فى الأوقات الراهنة؟ لا، هو ليس معدوما، إلا أن تنمية هذه الموارد تحتاج إلى مقاربات جديدة وسياسات ومؤسسات لرعايتها وتمكينها.

عودة إلى الموارد الملموسة، تنميتها تحتاج إلى ترتيب للأولويات وإلى سياسات جادة لإنتاج السلع والخدمات القابلة للتبادل.

تنمية الموارد الملموسة وغير الملموسة وتضافرها هو الذي سيسمح بالخروج من النفق الاقتصادي المظلم الحالي وبالمساهمة في صياغة المبادئ الحاكمة للنظام العالمي الآخذ في التشكل وقواعده.

من غير ذلك سنضطر لقبول ما يصيغه الآخرون وبما يعرض علينا، ولن تفيد كثيرا عضوية البريكس ولا غيرها.


لقراءة المقال كاملًا إضغط هنا

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن