يثير الانخراط الدبلوماسي المكثف للإدارة الانتقالية السورية، بقيادة الثلاثي الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني ووزير الدفاع مرهف أبو قصرة، في الفترة الأخيرة، مناظرة قديمة جديدة في الدراسات الدولية، تتصل بالعلاقة بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية. وتتضمن هذه المناظرة ما إذا كان تركيز صانع القرار على السياسة الخارجية من شأنه أن يرفد سياسته الداخلية بمصادر دعمٍ، تُسهم في حل المشكلات بالداخل ودفع جهود التنمية الاقتصادية، أم أنّ التركيز على التفاعلات الدبلوماسية المكثّفة قد يأتي على حساب تخصيص الوقت والجهد اللازمين لمعالجة المشكلات والأزمات الداخلية، لاسيما أنّ العامل الخارجي ليس بمقدوره أنْ يؤثر في الداخل ما لم تكن البيئة الداخلية مهيأةً لذلك.
وقد شهدت الفترة الأخيرة منذ ظهور الرئيس السوري لأول مرة منذ 1967 على منصة الأمم المتحدة في الدورة ال 80 للجمعية العامة في أواخر سبتمبر (أيلول) المنصرم، تحركات خارجية مكثفة للرئيس الشرع ووزيري الخارجية والدفاع. ففي منتصف أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، زار الرئيس الشرع روسيا، وسعى إلى "إعادة تعريف" العلاقات السورية-الروسية، وبناء علاقة براغماتية ومتعددة الأوجه مع موسكو. وبرغم اصطحابه معه في الزيارة المذكورة، عاد وزير الدفاع، مرهف أبو قصرة، إلى موسكو في أواخر الشهر الفائت. وفي التاسع من الشهر الجاري، قام الرئيس الشرع بزيارةٍ رسمية تاريخية إلى الولايات المتحدة، بعد يوم من إزالة الأخيرة اسمه من قوائم الإرهاب. وفي 17 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، حط الشيباني في بكين، في أول زيارة من نوعها إلى الصين. وشهدت دمشق في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) وجود ثلاثة وفود روسية وتركية وأمريكية.
وهكذا، يبدو أنّ إدارة الرئيس أحمد الشرع تُعطي الأولوية للدبلوماسية، بهدف نيل مزيدٍ من الاعتراف الدولي للحكومة الانتقالية، ورفع العقوبات الدولية خاصةً الأمريكية، وجلب الاستثمارات الأجنبية للمساعدة في جهود إعادة الإعمار والإنعاش الاقتصادي. ولكنّ التركيز على المراسم الدبلوماسية يأتي على حساب الاهتمام بالإصلاح المؤسسي الداخلي، وهو خيار زاد من حدة التحديات الداخلية بدلًا من أن يخفّفها.
ثمة تحديات داخلية جمة تواجهها سوريا الجديدة، أهمها وجود فراغ قانوني شامل ما يمثل عائقاً رئيسياً أمام عملية الانتقال، فالسلطة الدستورية غير محددة، والمحاكم غير عاملة تقريباً، وحقوق الملكية غير مضمونة. ويواجه المستثمرون عقبات هائلة في إبرام المعاملات المالية أو ضمان سبل التقاضي، ما يردع تدفق الاستثمارات الأجنبية. دون الحديث عن أنّ الفساد السياسي لا يزال مستشرياً في أوساط السلطة، وتحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات للإثراء الشخصي بدلاً من الخدمة العامة، ما يقوّض الاستقرار، والقدرة المؤسسية على المدى الطويل.
وإذا تحولنا إلى الهياكل الإدارية في البلاد، فأقل ما تُوصف به أنها مختلة، حيث تفتقر الوزارات إلى التنسيق فيما بينها، وتخلو الممارسات الإدارية من الاحترافية، وتُمنَح التعيينات بناءً على الانتماء السياسي لا على الخبرة الفنية. وقد أدت عملية تطهير معظم موظفي النظام السابق إلى فقدان المعرفة المؤسسية، فيما يمنع انعدام الثقة بين الموظفين القدامى والجدد تبادل الخبرات، ويقوّض الذاكرة المؤسسية، والنتيجة أن المهام الروتينية ذاتها باتت تحتاج إلى حلول ارتجالية.
ولا تزال هناك أزمة في التكامل الوطني في البلاد، حيث تتراجع الهوية الوطنية السورية الموحّدة لمصلحة تنامي الانتماءات الفرعية – الأسرية والطائفية والإثنية والإقليمية – وزيادة حدة الانقسامات الطائفية لأسبابٍ عديدة معظمها يعود إلى فترة النظام السابق، ولكن فاقمها التمثيل الشكلي للأقليات والتهميش الواضح للفئات غير الموالية في سوريا الجديدة، الأمر الذّي يُضعف الشعور بالمواطنة المشتركة.
وهناك أزمة في العدالة الانتقالية والمصالحة الاجتماعية. ويجسّد المرسوم الوطني للعدالة الانتقالية الصادر في مايو (أيار) 2025 الطابع الانتقائي للعدالة الانتقالية، إذ استثنى من نطاقه الجرائم التي ارتكبتها تنظيمات داعش، وقوات سوريا الديمقراطية، وفصائل الجيش الوطني، وهيئة تحرير الشام. وهذا النهج القائم على "عدالة المنتصر" يرسّخ الانطباع بأن المساءلة لا تُطبَّق إلا على المهزومين، بينما يُستثنى الحلفاء. وتكاد هذه الانتقائية أن تقوّض جهود المصالحة المجتمعية.
والأهم من ذلك، ثمة تحدي إصلاح القطاع الأمني ودمج الفصائل المسلحة. فقوات الأمن والدفاع لا تزال مجزأة، وتفتقر إلى الاحتراف وتعمل دون انضباط مركزي، وتُطبق معايير غير متسقة. وقد كانت عملية دمج الفصائل المسلحة تحت مظلة وزارة الدفاع في معظمها شكلية. فبالرغم من إزالة شعارات الفصائل وادعاء إخضاعها للسلطة الرسمية، فإن المقاتلين أنفسهم بقُوا في المناطق ذاتها وبالولاءات ذاتها. ويجسد تعثّر عملية دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التحديات الأوسع التي يواجهها قطاع الأمن السوري. فاتفاق 10 مارس (آذار) 2025، الذي تعهدت بموجبه "قسد" بالانضمام إلى الجيش السوري، لم يسفر عن أي خطوات عملية أو إيجابية، ما جعل العملية في حالة جمود تام.
الخلاصة.. أنه برغم الاعتراف بأنّ الدبلوماسية المكثفة للإدارة الانتقالية السورية برئاسة الرئيس الشرع قد أثمرت نتائج إيجابية على صعيد الاعتراف الدولي ورفع العقوبات، إلا أنها جاءت على حساب الإصلاح التشريعي، وإصلاح المؤسسات من بيروقراطية وأجهزة أمنية، والتركيز على جهود إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية في الداخل!
(الخليج الإماراتية)

