صحافة

المقترح الأمريكي حول أوكرانيا.. روسيا تنتصر

حسام ميرو

المشاركة
المقترح الأمريكي حول أوكرانيا.. روسيا تنتصر

منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقترحه لوقف الحرب في أوكرانيا- القائم على تثبيت خطوط التماس الراهنة وفتح باب التفاوض المباشر بين موسكو وكييف- دخلت الأزمة طوراً جديداً من مقاربة الغرب لها، طوراً اتسم بميل ملحوظ نحو الواقعية السياسية، وبإقرار ضمني بأن مسار الحرب لم يعد يخدم أهداف واشنطن كما بدا في سنواتها الأولى. فالمقترح ليس مجرد مبادرة تفاوضية، فهو عملياً يشكل نقطة انعطاف سببية في الخطاب الاستراتيجي الأمريكي، إذ جاء في لحظة تراكمت فيها مؤشرات التعب الاقتصادي والسياسي، وتقلّص خلالها هامش المناورة العسكرية الأوكرانية.

وعليه، بدا أن التحوّل في الموقف الأمريكي ليس تكتيكياً أو مرحلياً، وإنما نتيجة منطقية لمسار انتهى إلى ترجيح كفة روسيا على الأرض وفي ميزان القوى الدولي. لقد مثّلت الحرب الروسية الأوكرانية منذ بدايتها اختباراً صارخاً للقدرة الأمريكية على إدارة تحالف واسع في مواجهة قوة كبرى. ففي العامين الأولين، بدا الغرب موحداً في استراتيجيته الداعمة لكييف وفي رهاناته على إلحاق هزيمة استراتيجية بموسكو. غير أن هذا الخطاب أخذ يتآكل تدريجياً تحت وطأة حقائق ثلاث: الأولى تتصل بالكلفة المالية غير المسبوقة التي تحمّلتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والثانية بتباطؤ الدينامية العسكرية الأوكرانية رغم ضخامة الأسلحة الغربية، والثالثة بظهور أولويات عالمية أكثر إلحاحاً بالنسبة لواشنطن، وفي مقدمتها الصعود الصيني المتسارع.

على المستوى المالي، تجاوزت حزم الدعم الأمريكي لأوكرانيا مستوى يسمح باستدامته سياسياً في الداخل الأمريكي، فالإرهاق الاقتصادي، والانقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، والضغوط الاجتماعية المرتبطة بتراجع مستويات المعيشة، جعلت من الملف الأوكراني عبئاً على الإدارة الجديدة. أما على الصعيد العسكري، فقد بات واضحاً أن أوكرانيا فقدت القدرة على قلب موازين القوى. فالهجوم المضاد عام 2023، والذي عُدّ آنذاك رهان الغرب الأخير لتحقيق اختراق نوعي، انتهى من دون نتائج ملموسة، وفي العامين الماضيين، تمكنت روسيا من تثبيت سيطرتها على مساحات واسعة في دونباس وجنوب أوكرانيا، مدعومة بقدرة هائلة على التعبئة العسكرية، وإنتاج متنامٍ للصناعات الدفاعية، واستفادة من عمق جغرافي كبير يسمح لها بإدارة حرب طويلة النفس، وهذا التبدل الميداني دفع العواصم الغربية إلى إعادة النظر في توقعاتها السابقة حول قدرة كييف على استعادة الأراضي.

في هذا السياق، يبدو المقترح الأمريكي محاولة لتقييد الخسائر، أكثر منه سعياً إلى تحقيق مكاسب سياسية، فالدعوة إلى وقف إطلاق النار عند خطوط التماس الحالية تعني، عملياً، اعترافاً بتغيّر الخرائط على الأرض. وبهذا المعنى، فإن انتصار روسيا، فرض نفسه على السلوك الأمريكي والغربي، إذ نجحت موسكو، رغم العقوبات الهائلة، في إعادة توجيه بنية اقتصادها نحو دول الشرق، خصوصاً الصين والهند، وفي تعزيز أمنها الطاقي، وفي رفع قدرتها الإنتاجية العسكرية بمستوى غير مسبوق منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، والأهم من ذلك أنها استطاعت الصمود أمام أقسى حملة عقوبات شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بل وتحويل بعض آثارها إلى محفزات لإعادة بناء صناعات وطنية.

وفي المقابل، تبدو أوكرانيا اليوم أمام مفترق وجودي، فقبول المقترح الأمريكي يعني الاعتراف بخسارة ما يقارب خُمس الأراضي الأوكرانية، وإرجاء حلم الانضمام إلى الناتو، والدخول في مرحلة طويلة من إعادة بناء دولة منهكة اقتصادياً وبشرياً، أما رفضه، فيعني الاستمرار في حرب باتت كلفة استمرارها أعلى من قدرة الدولة الأوكرانية على التحمل، سواء على المستوى العسكري أو الاجتماعي أو الاقتصادي، كما تدرك كييف أن تراجع اندفاع أمريكا عن دعمها هو تحوّل بنيوي في أولويات واشنطن.

على المستوى الدولي، يحمل المقترح الأمريكي دلالات أوسع من الصراع بحدّ ذاته. فهو يشير إلى تراجع قدرة الولايات المتحدة على فرض نتائج استراتيجية في نزاعات كبرى، ويعكس حدود فاعلية أدوات الضغط التقليدية مثل التحالفات والعقوبات، كما أنه يبرز تحولاً مهماً في بنية النظام الدولي، حيث باتت القوى الكبرى غير الغربية، مثل روسيا والصين تحديداً، تمتلك قدرة أكبر على مقاومة الضغوط، وإعادة تشكيل ساحات الصراع وفق مصالحها.

(الخليج الإماراتية)

يتم التصفح الآن