في الأسبوع الأول من الشهر الجاري، كشف البيت الأبيض عن استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، التي أصدرتها إدارة الرئيس دونالد ترامب. وتهدف الاستراتيجية الجديدة إلى إعادة تعريف أولويات السياسة الخارجية الأمريكية عبر مقاربة "أمريكا أولاً"، مع تركيزٍ صارم على حماية المصالح الحيوية، وإعادة بناء القوة الاقتصادية والصناعية، وتعديل العلاقات مع الحلفاء، وفرض توازنات قادرة على منع صعود خصوم قادرين على تهديد الهيمنة الأمريكية، ولاسيما الصين. وتتبنى الاستراتيجية الجديدة نهج "الواقعية المرنة" واقتراب "السلام من خلال القوة"، وتُقدم مقاربة أكثر قومية وانتقائية مقارنة بالاستراتيجية السابقة عليها لعام 2022.
ويتزامن صدور الاستراتيجية الأمريكية الجديدة مع بيئة دولية تتسم بتصاعد المنافسة مع الصين، وتراجع الوزن النسبي لأوروبا، وتحوّل الشرق الأوسط إلى ساحة أقل أولوية مقارنة بمنطقة الإندوباسيفيك ونصف الكرة الغربي. وتأتي استراتيجية 2025 في ظل اقتناع لدى إدارة ترامب بأنّ سياسات الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة، انحرفت عن خدمة المصالح القومية الأمريكية عبر التوسع الزائد في الالتزامات الخارجية، وتبنّي العولمة الاقتصادية، والاعتماد على سلاسل توريد مكشوفة، والسماح للحلفاء بالاستفادة من القوة الأمريكية من دون تقاسم الأعباء.
وتعكس الاستراتيجية الجديدة توجهاً خارجياً لإدارة ترامب يقوم على حصر الأمن القومي في حماية القدرة الاقتصادية والصناعية الداخلية، وربط القوة العسكرية بمبدأ الردع لا التورط في النزاعات، مع تبنّي سياسة أكثر براغماتية في التعامل مع الحلفاء، واشتراط «العدالة» في التبادلات الأمنية والاقتصادية. وتُظهر الاستراتيجية انحيازاً واضحاً نحو إعادة توزيع الأعباء الإقليمية (خصوصاً في أوروبا والشرق الأوسط)، والحد من دور المؤسسات والمنظمات الدولية، وتعزيز تنافسية الولايات المتحدة في مجالَي التكنولوجيا والطاقة.
وتشير الاستراتيجية إلى انتقال الولايات المتحدة من نموذج "القيادة العالمية" إلى نموذج "الحماية الانتقائية للمصالح الحيوية"، ما يفتح الباب أمام عالم أكثر تعددية في القوة، وأكثر ارتباطاً بتوازنات إقليمية غير مركزية. وبالنسبة لعناصر التمايز لاستراتيجية 2025 مقارنة باستراتيجية 2022، تزعم إدارة ترامب أنّ استراتيجيتها الجديدة تُصحح المسار الاستراتيجي المنحرف لاستراتيجية 2022 التي كانت عبارة عن مجرد قوائم رغبات أو حالات نهائية مرغوبة، ولم تُعرّف بوضوح ما تريده الولايات المتحدة، بل اكتفت بـ "عموميات غامضة"، كما أخطأت في تقدير ما يجب أن تريده.
وتنأى استراتيجية 2025 بالولايات المتحدة عن الهيمنة العالمية والتدخل حيث تتبنى الاستراتيجية "عتبة عالية لما يُشكل تدخلاً مبرراً" في شؤون الدول الأخرى، وتسعى إلى حماية السيادة الأمريكية من التآكل الذي تسببه المنظمات عبر الوطنية والدولية، وضمان مبدأ المعاملة بالمثل وتقاسم الأعباء، وتولي الأهمية للتوجه الاقتصادي والتكنولوجي الداخلي لضمان أن تبقى الولايات المتحدة "البلد الأكثر تقدماً وابتكاراً علمياً وتكنولوجياً في العالم". وبالمقارنة باستراتيجية 2022، تُضيّق الاستراتيجية الجديدة بؤرة الاهتمام الأمريكي تجاه نصف الكرة الغربي، حيث يتبنى الرئيس ترامب نسخة محدثة من مبدأ مونرو، وتضغط على أوروبا لزيادة أعبائها الدفاعية، وتقلل الانخراط في الشرق الأوسط. كما تتبنى الاستراتيجية الجديدة سياسات أكثر صرامة تجاه الصين وروسيا، تتراوح بين الردع المباشر وفرض القيود الاقتصادية والجيوسياسية.
والحق أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تُقدم فرصاً وتخلق مخاطر محتملة على دولة الإمارات. أولى هذه الفرص هو تعزيز الشراكة التكنولوجية والاستثمارية مع الولايات المتحدة في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة والتكنولوجيا، التي تركز عليها الاستراتيجية الجديدة. علاوة على ذلك، تمنح سياسة "إعادة توزيع الأعباء الأمريكية" والاعتماد المتزايد على شركاء إقليميين، دولة الإمارات هامشاً أوسع للعب دور قيادي إقليمي مع دعم محدود من واشنطن مقابل مزايا تجارية وأمنية.
بيد أنّ استراتيجية 2025 تُعقد سياسة التوازن الإماراتية بين واشنطن وبكين/موسكو، وترفع كلفة المناورة الاستراتيجية الإماراتية، وقد تُعرّض دولة الإمارات لضغوطٍ متعارضة من المحورين. علاوة على ذلك، فإنّ تشديد واشنطن على حماية سلاسل التوريد والتكنولوجيا والقيود على صادرات معينة قد يضيق نطاق الفرص المتاحة للمشاريع الاستثمارية الإماراتية مع الشركاء الصينيين، أو يرفع تكاليف الوصول إلى أسواق وتقنيات أمريكية حيوية.
وعامةً، فإنّ إعادة تشكيل ملامح البيئة الجيوسياسية العالمية، كما تصوره الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، على نحو يتّسم بتصاعد التنافس بين القوى الكبرى، بما يُفضي إلى حالة متزايدة من عدم اليقين وعدم الاستقرار الإقليمي، بما في ذلك الشرق الأوسط، قد يعرّض خطوط الإمداد والاستثمارات الإماراتية لمخاطر مباشرة. وهكذا، يُرجّح أن تتجه البيئة الدولية نحو مزيد من الاستقطاب مع تعمّق المواقف الصينية المناهضة لجوهر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، إذ ستواصل بكين السعي لتوسيع نفوذَيها الاقتصادي والتكنولوجي عبر شبكات بديلة لسلاسل التوريد، ونماذج تمويل موازية، مع تعزيز شراكاتها في آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، لخلق هامش مناورة أمام الضغوط الأمريكية.
ونتيجة ذلك، قد يتبلور نظام دولي أكثر تجزوءاً يقوم على كتل اقتصادية وأمنية متنافسة، تتراجع فيه فاعلية المؤسسات المتعددة الأطراف، فيما يصبح مجال التنافس التكنولوجي والطاقة والفضاء الإلكتروني نقطة الارتكاز الأساسية للصراع الطويل المدى بين القوى الكبرى.
(الخليج الإماراتية)

