صحافة

قبل أن تهرب عقولنا إلى الخارج

شوكت المصري

المشاركة
قبل أن تهرب عقولنا إلى الخارج

كانت مصر لسنواتٍ طوال قِبلة المفكرين والأدباء والمبدعين والفنانين، وليس غريبًا إذا تذكرنا دور «الكونت زيزينيا» واللبناني «سليم النقاش» في تأسيس المسرح المصري العربي، ودور الفنان العراقي الأصل «نجيب الريحاني» في المجال ذاته، وما قدمه السوريان المبدعان «أسمهان» و«فريد الأطرش» في الموسيقى والغناء، وكذا دور «سليم وبشارة تقلا» في بدايات العمل الصحفي بمصر، وغيرهم الكثيرون ممن لا يتسع لهم المقام هنا في عشرات المجالات التي كانت فيها مصر حاضنة للآخر تمامًا كأبنائها، سواءً في المجالات الثقافية والإبداعية أو في المجالات العلمية والتطبيقية، بل والسياسية والدينية والتجارية وغيرها من مناحي الحياة والبناء والوجود.

بهذا خطت مصر خطوات عملاقة منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى العقود الثلاثة الأولى من القرن الحادي والعشرين، حيث كانت الجهود والعقول المصرية المبدعة الفريدة تتضافر وتتكامل مع الوافدين إلى مصر من شتى بقاع الدنيا؛ لتشرق شمس الحضارة المصرية متجددةً زاهرة.. وها نحن بعد 100 عام ويزيد أصبحنا نشهد كل يوم نقيضَ ما كان يحدث، حيث أصبح الموهوبون يتسربون واحدًا تلو الآخر، بحثًا عن فرصةٍ تحت الشمس، حتى ولو كانت تلك الفرصة تحت رايةٍ أخرى غير راية هذا الوطن التي ستظلُّ خفاقةً رغم كل محاولات النيل من سموِّها ورفعتها، عمدًا من كارهٍ متربص أو عن غير عمد من فاشلٍ أو مُقصِّرٍ.

لقد شهدت الأيام الماضية تتويج البطل الفرنسي (مصري الأصل) «إبراهيم غانم الونش» ببطولة العالم في المصارعة بصربيا، ومنذ عامين فاز الربّاع القَطَرى (مصري الأصل أيضًا) «فارس حسونة» بأول ميدالية قطرية في رفع الأثقال بأوليمبياد طوكيو 2020، ومنذ أسابيع قليلة انشغلت المواقع الصحفية وصفحات التواصل الاجتماعي بهروب اللاعب «أحمد فؤاد بغدودة» نجم مصر في المصارعة الرومانية إلى فرنسا، بعد حصوله على الميدالية الفضية ببطولة إفريقيا التي أقيمت في تونس.

وليست حكاية عالمة الفيزياء المصرية «إلهام فضالى» ببعيدة عن الأذهان، فقد استقالت من الجامعة المصرية التي كانت تعمل بها بعد تعنت بعض أساتذتها معها، وقررت الرحيل إلى أوروبا لتستكمل أحلامَها وأبحاثها العلمية هناك، حتى اختير بحثها من كبرى المجلات العلمية الأوروبية كأفضل بحث علمي في الفيزياء لعام 2020، وها هي ما تزال تحقق النجاحات خارج مصر بكل ثقةٍ وفرادةٍ وتميز.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا والآن، هل تم أو سيتم التحقيق مع أي مسؤول أو رئيس مؤسسة علمية أو جامعة أو اتحاد لعبة فيما يحدث من تقصير يبلغ درجة التفريغ المتعمّد و«التطفيش» للموهوبين المصريين؟!، وهل سمعنا عن إقالة اتحاد رياضي أو حلّ مجلس إدارة لأن القائمين عليه لم يحفظوا أماناتهم ويؤدوا أدوارَهم في اكتشاف ورعاية وتقدير الموهوبين معنويًّا وماديًّا ليرفعوا راية مصر مجددًا في كل محفلٍ ومجال؟!، أوَلَيستْ أخبار الهروب هذه أو تلك تضربُ وبقوة في عقول ووعي شبابنا وأطفالنا وانتمائهم وإيمانهم بقضايا الوطن ومستقبله ومستقبلهم فيه؟!.

تحلمُ ابنتي «نور» بالسفر إلى ألمانيا لاستكمال تعليمها الجامعي هناك، وكلما حاولتُ استدراجها للأسباب، وحاولتُ مجاراتها في روعة سفرها إلى أوروبا للدراسة ثم عودتها بعد ذلك إلى مصر لإفادَةِ وطنها وأبنائه بما تعلمته؛ تنظر لي نظرةً كلها استهجان ثم تقول «ما انت شاعر بقى وهتقعد تقوللي (قول هندّي إيه لمصر).. أنا لو سافرت مش هأرجع تاني».

أخيرًا وليس آخرًا.. إن العالم من حولنا يتطور ويتغيّر، وتحاول دول كثيرة سحب البساط من تحت أقدامنا في الثقافة والفنون والتعليم والاستثمار.. هذا حقّهم وحقُّ أوطانهم عليهم، ولو لم يفعلوا ذلك لكانوا لا يستحقون نعمة الانتماء لأوطانهم وفرحةَ بنائها بالأحلام التي تتحوّلُ إلى واقعٍ وحقيقة. وبالمقابل من حقِّنا أيضًا أن ندافعَ عن مكتسباتنا ومنجزاتنا ومركزيتنا بالعمل المتواصل الذي يليق بمصر ومكانتها وتاريخها وحضارتها، وأن يواكبَ هذا العمل حسابٌ عسيرٌ وواضحٌ ومعلنٌ لكل من تسوّل له نفسه الإسهام- ولو تقصيرًا وعن غير عمد- في هروب عقولنا وموهوبينا وأبطالنا؛ ليلتفُّوا على منصات التتويج والتكريم بعَلَمٍ آخر غير عَلَمِ مصر، علمُ مصر الذي سيظل بأبنائها المخلصين الصادقين- وإن قلّوا- خفاقًا عاليًا وإلى الأبد.

(المصري اليوم)

يتم التصفح الآن