كثيراً ما تُطـرَح أسئلةٌ عن العروبة - في بيئاتٍ فكريّـة وسياسيّة عربيّة مسكونة بهواجس المستقبل - تبدو كما لو أنّـها أسئلةٌ جديدة. من ذلك، مثلًا، السؤال التالي: «ما معنى العروبة اليوم؟»؛ أو «ما عساها تكون العروبةُ اليوم؟». ولا مِـرْيَـةَ في أنّه سؤالٌ يُضْـمِر جوابًا عن سؤالٍ سابق قد يُطـرَحُ على صورٍ مختلفة: «هل ما زالت العروبةُ إمكانًا؟»؛ «هل العروبةُ فرضيّةٌ فكريّـة أم واقعٌ تاريخيّ؟»...، وما في معناهُما من أسئلة. وغنيٌّ عن البيان أنّ الجوابَ المُضْـمَر عن السؤال القَبْليّ جوابٌ بالإيجاب؛ وآيُ ذلك أنّه ما كان يمكن اشتقاقُ سؤالٍ جديد عن «معنى العروبة اليوم» - الذي نستهلّ به هذا النّـصّ - لو لم يكن قد جرى التّسليمُ سلفًا بأنّها أفـقٌ ينتمي إلى الإمكان التّاريخيّ.
والحقّ أنّـه سؤالٌ لا جِـدّةَ فيه؛ لأنّه طُرِح في مناسبات تاريخيّة متعدّدة من أجيالٍ سابقة من العروبيّين، فكان يبدو - عند كلِّ جَهْـرٍ به - سؤالًا جديدًا فيما الجِـدَّةُ، على الحقيقة، في الظّـرف التّاريخيّ الجديد، لا في السّؤال عينِه المتكـرِّرِ التّعبير عنه. والحقُّ أنّ ظرفيّةَ السّؤال ليست حاشيةً على السؤال ولا هي زمنيّة محايدة، بل هي التي تمنح السؤال مضمونَـه وطَعْـمَه الخاصّ. وظرفيّةُ اليوم - التي في امتداد سياقاتها يُطْرَح هـذا السؤال - هي، بالذّات - ما يُكْسِبُـهُ قـدْرَهُ الكبيرَ من الأهميّة الإشكاليّة بالنّظر إلى أنّها ظرفيّةُ تراجُـعٍ مروِّع في كلّ شيء. ولأنّها كذلك (= ظرفيّةُ تَـراجُع)، فهي تَخْلُق للسّؤال عنصرَ الإثارة الذي يجعل منه سؤالًا إشكاليًّا.
البنية التحتيّة للعروبة لن تكون سوى ترجمة العلاقة الثـقافيّة في علاقـة اقتصاديّـة - سياسيّـة
لِنَـقُـل، إذن، إنّ معنى العروبة، اليوم، هو عينُه معناها أمس؛ أي بما هي تلك الرّابطة الثّقافيّة واللّسانيّة والحضاريّـة التي صَهَـرَتْ، عبر قرون، جماعاتٍ سكّانيّـةً من منابعَ أقواميّـةٍ ودينيّةٍ عـدّة في كيانيّـةٍ مندمجة عليا واحدة تمثِّـل هذه العلاقـةُ الجامعة (= العروبة) أَسْمَنْـتَها ولحمتَها. ليستِ العروبـةُ، إذن، رابطةً دمويّـة، وليس مبْناها على النّسب - حيث النّسبُ شيءٌ وهميّ على قول ابن خلدون - وإنّما هي مشتَـرَكٌ ثقافـيٌّ - لغويّ تاريخيّ.
هذه مواردُ العروبة؛ وهي موارد تاريخيّة موروثة ومتجدّدة يُـعَاد إنتاجُـها من قِـبل فكـرٍ جامعٍ عابـرٍ للوطنيّـات ومستندٍ إلى فكرة العروبة الجامعة، مثلما يُعاد إنتاجُها في نطاق منظومة العلاقات العربيّة البينيّة و، قبل هذا وذاك، في نطاق كلّ دائرةٍ وطنيّة. لكنّ هذه الموارد الثّـقافيّة تقع من العروبة - إنِ استَـعَرْنا المفردات الماركسيّة - بمنزلة بنـيتها الفوقـيّة؛ وهي بنية لا يكتمل مفعولُـها من دون بنيةٍ تحتيّـة تعبّـر عن واقعها الموضوعيّ. إنّ البنية التّحتيّة للعروبة لن تكون شيئًا آخـر سوى ترجمة العلاقة الثّـقافيّة (= العروبة) في علاقـةٍ اقتصاديّـة - سياسيّـة، أي في منظومةٍ متدرِّجـةِ التّكـوينِ والتّـوسُّـع من علاقات التّبادُل الماديّ (لا الرّمـزيّ فقط) بين البلاد العربيّة يَـقْوى بها نسيجُ التّرابُـط بينها في أفـق الانتقال من الاعتمـاد المتبادَل إلى الشّـراكة ثمّ الاندماج... وهذا هو الجديد الذي ينبغي أن يتغذّى به مفهومُ العروبة.
الوحدة شرطها الاندماج الاقتصادي الذي مبناهُ على توليد المصلحة العربية العامة العابرة لحدود الأوطان
قد يقال إنّ الجديد هذا - الذي ندّعيـه - قديـمٌ؛ وهُـوَ هُـو الوحدة. وهذا صحيحٌ على وجْـه العموم؛ لكنّ ما عنينـاهُ ليس الوحـدة السّياسيّة الكيانيّـة، على نحو ما بشّـرَ بها القوميّـون ودافعوا عنها؛ إذْ إنّ هذه - ولو أنّها الأفـقُ المطلوبُ والمرغوبُ فيه - مؤجَّـلةٌ إلى حينٍ، والأهـمّ أنّها متعلّـقة بتحقيق شرطها التّحتيّ: الاندماج الاقتصاديّ الذي مبناهُ على تعظيم المصالح و، بالتـالي، توليد المصلحة العربيّة العامّـة العابرة لحدود الأوطان.
(خاص "عروبة 22")