كانت المشاهِد المتدفقة عبر الفضائيات العربية والدولية، والڤيديوهات التي غمرَت كافة وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من مذهلة، فالتخطيط شامل ومُحكَم وبالغ الدقة، وسهولة النفاذ إلى العمق الإسرائيلي تعيد هزّ الكثير من المسلّمات التي سقطَت في حرب أكتوبر ١٩٧٣ ثم أعيد الاشتغال على ترميمها وتثبيتها، وأهمّها مسلّمة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
والحقيقة أنه لا يوجد جيش في العالم لا يُقهر أو لم يُقهر، فتوازن القوة من عدمه، وطبيعة أرض المعركة، وعنصر المفاجأة، والدعم الخارجي، والأهم من كل ذلك الإيمان الصادق بعدالة القضية، جميعها عوامل تتحكّم في النصر والهزيمة.
دفعَت الحكومة الأشد يمينيةً وتطرّفًا في تاريخ إسرائيل ثمن تجبّرها وتماديها
على الجملة أعاد يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ عقارب الساعة خمسين عامًا إلى الوراء عندما حطمّت القوات المسلّحة المصرية "خط بارليف" المنيع، لكن في قالب جديد وسياق مختلف، أما جوهر القضية فواحد "التحرّر الوطني".
وبدا لكل الحالمين بفلسطين حرّة أنّ الطفل حنظلة الذي أبدعه الرسام الفلسطيني العبقري ناجي العلّي قد عدّل وضعه لأول مرة منذ عام ١٩٦٩، وواجه العالَم ونظر في عينه، وكان من أبدع الرسوم الكاريكاتيرية التي جسّدت جزءًا مما دار صباح السابع من أكتوبر ذلك الرسم الذي ظهر فيه حنظلة وهو يهبط بطائرة شراعية خلف الخطوط الإسرائيلية وكأنه أحد رجال المقاومة. وليت أنّ ناجي العلَي كان بيننا ليرى حنظلته بطلًا.
بهذا الطوفان دفعَت الحكومة الأشد يمينيةً وتطرّفًا في تاريخ إسرائيل ثمن تجبّرها وتماديها بشكلٍ غير مسبوق في التوسّع الاستيطاني واقتحام المسجد الأقصى وهدم عشرات العمارات بل والأحياء على رؤوس أصحابها.
ومع أنّ لا شئ يبرّر قتل المدنيين إلا أنّ إسرائيل هي آخر دول العالم تدّعي حرصها على حياة المدنيين الفلسطينيين، من أوّل المجازر الجماعية في دير ياسين وبحر البقر وقانا، وحتى القتل المجاني لمحمد الدرّة تحت جناح أبيه، وشيرين أبو عاقلة وهي تمسك بكاميرا تصوير.. فقط كاميرا.
ولذلك عندما استمعَتُ إلى الأكاديمي الإسرائيلي مائير مصري على فضائية "بي بي سي" عربي وهو يقول بمنتهى الانفعال والفجاجة في الوقت نفسه إنّ "الذي يميّز إسرائيل عن حماس هو الأخلاق وليس السلاح"، تعجّبت من أن تصل استهانته بنا نحن المشاهدين إلى هذا الحد.
لم تترك الحكومة اليمينية الحالية خيارًا آخر للفلسطينيين، ليس فقط لأنها على هذا النحو من الغلّو والتطرّف والشطط، ولكن أيضًا لأنّ لها أجندتها السياسية وحساباتها الخاصة التي تتمثّل في صرف النظر عن تصاعد المعارضة في الداخل إلى تهديدات حركات المقاومة الفلسطينية "حماس" و"الجهاد"، وتلك حيلة جرَبتها تقريبًا كل الأنظمة الفاشلة. ومع ذلك فها هي سياسات نتنياهو تقود حكومته إلى نهايتها، فالهزيمة الأشّد لحقَت بالحكومة اليمينية الأشَد، وبالتالي فإنّ نهاية مستقبلها السياسي مسألة وقت. هو لن يوفّر الجهد في إلحاق أكبر قدر ممكن من الدمار والقتل مع الأسف بقطاع غزة وأهله، لكن ما حدث وسيحدث لن يغيّر شيئًا من صورة إسرائيل التي يتابعها العالم كلّه منذ صبيحة يوم السابع من أكتوبر، جدارها الذي يحميها لم يحمها، جنودها ومستوطنوها يُجرّدون من سلاحهم ويُأسرون، وعرباتها الچيب يقودها رجال المقاومة ويدخلون بها القطاع. فشل كامل لجهاز "الموساد"، وقصور شديد في حساب توازنات القوة وفق معطيات نوعية وكم السلاح فقط لا غير، وستحتاج إسرائيل سنين طويلة تُخضع فيها عملية "طوفان الأقصى" لتحليل عميق في محاولة لفهم ما جرى.
الغرب ليس في وارد اشتعال الشرق الأوسط وهو في قلب الحرب الأوكرانية
هل يمكن أن يحدث انتشار للصراع بحيث يتمدّد إلى الضفة الغربية والداخل الإسرائيلي ويشارك فيه بعمق "حزب الله" من لبنان وفصائل مسلّحة من سوريا؟.. لا أحد يعرف بالضبط كيف سيكون مسار الطوفان وإلى أين يتجّه، لكن في حدود المعطيات القائمة فإنّ ردود الفعل حتى الآن تبدو منضبطة، بمعنى أنه كان هناك اختيار دقيق من "حزب الله" لنطاق الاستهداف وردّ متوازن من جانب إسرائيل، ومظاهر دعم وتأييد من داخل الضفة لكن من دون تصعيد، أما سوريا فأظنّ أنّ الذين طرحوا اشتباكها مع الأحداث بأي صورة من الصور يعلمون أنّ هذا غير وارد لأسباب كثيرة. هذا إلى أنّ الغرب ليس في وارد اشتعال الشرق الأوسط وهو في قلب الحرب الأوكرانية والشتاء على الأبواب.
إذن المنطق يفترض ألا ينتشر الصراع، ويفترض أيضًا أنّ العدد الضخم من الأسرى الإسرائيليين سيفتح الباب لمفاوضات طويلة المدى من أجل مبادلة هؤلاء الأسرى بالأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، لكن إذا اقتصر الأمر على هذا الأثر وحده فإنه سيعني الإبقاء على جذور الصراع قائمة، وعلى استقرار الشرق الأوسط بعيد المنال، فلا استقرار دون حلٍ عادل للقضية الفلسطينية، هذه الجملة التي لفرط تكرارها استُهلكت لكنها حقيقية تمامًا، ومن يدري فلعلّها تجد من يصغي إليها بعد أن جرى ما جرى في الطوفان ومنه.
(خاص "عروبة 22")