فور اندلاع أحداث السابع من أكتوبر الحالي وهي التي أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عملية «طوفان الأقصى» دخل الشرق الأوسط رسميا في مرحلة جديدة من تاريخ صراعاته، وهي في رأيي مرحلة مفصلية لا تقل أهمية مثلا عن حرب أكتوبر ١٩٧٣ أو اتفاق أوسلو للسلام ١٩٩٣ أو اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (٢٠٠٠ ــ ٢٠٠٤) ، والمقصود بالأهمية هنا أنها نقطة فاصلة فما سيأتي بعدها إقليميا ودوليا من أحداث ستغير من خارطة توازنات القوى في المنطقة بخصوص القضية الفلسطينية تماما كما كانت الحال بعد اتفاقية أوسلو أو الانتفاضة الفلسطينية.
في كل الصراعات الدولية، يصور الساسة لشعبوهم أن العملية صفرية، سحق تام للطرف الآخر وانتصار نهائي للذات، هذا مهم لأن السياسي هدفه تجييش كل الطاقات خلفه والحصول على دعم غير مشروط من جماهيره، ولهذا فدعاية الحرب تكون على أشدها، رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحدث عن سحق تام لحماس، وتغيير غزة، والانتصار الساحق لجيشه، لكن قراءة مبسطة للتاريخ، تخبرنا بالنتيجة، لا حسم للصراعات الدولية بشكل صفري، وعادة ما تنتهى الأمور على مائدة التفاوض!
بالعودة إلى عملية طوفان الأقصى، والرد الإسرائيلي عليها، وباستخدام القراءة التاريخية للصراع منذ الانتداب البريطاني على فلسطين التاريخية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، يمكن توقع السيناريو التالي: بعد إراقة الدماء وتشريد البشر وإزهاق الأرواح، سيجلس الجميع على مائدة التفاوض، إما بشكل مباشر أو عبر وسطاء، لا حلول صفرية، حتى لو طال أمد الحروب! ولأن المفاوضات لا تجرى في الفراغ، فيسعى كل طرف إلى الحصول على أكبر قدر من المكاسب على الأرض قبل هذا التفاوض حتى يجد أكبر عدد من الكروت الممكنة لاستخدامها أثناء هذا التفاوض!
كذلك كانت، وستظل، الحال بالنسبة لحركة التحرير الفلسطينية بقيادتها المختلفة، انتقلت من المقاومة إلى السلام مستغلة بعض المكاسب على الأرض، وفي مقدمتها الانتفاضة الفلسطينية الأولى (١٩٨٧ــ١٩٩٠)، وانهيار الاتحاد السوفيتي، فتحولت إلى مائدة المفاوضات لتحصل على الاعتراف الرسمي من المجتمع الدولي وفي المقابل تقدم الاعتراف بإسرائيل!
وحتى حركة حماس، فبمقارنة ميثاقها السياسي عام ١٩٨٨ وميثاقها السياسي المعدل عام ٢٠١٧ يمكن رؤية بعض التغييرات الجوهرية مثل القبول بدولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧ (الضفة الغربية، غزة، القدس الشرقية)! إذا، فنحن أمام تحريك جديد على الأرض، هدفه تغيير موازين القوة نحو إعادة القضية الفلسطينية وحق شعبها العادل في تقرير المصير إلى الوجهة العالمية بعد سنوات طويلة من التجاهل!
لن تؤدي عملية طوفان القدس إلى زوال دولة إسرائيل، ولا إلى تحرير القدس، على الأقل في الأجل المنظور، كما لن تتمكن إسرائيل من القضاء على حماس تماما، ولكنها ستؤدي بكل تأكيد ــ إن لم تكن قد أدت بالفعل ــ إلى إدراك المجتمع الدولي، أنه لا يمكن فقط بفرض سياسة الأمر الواقع من الجانب الإسرائيلى مستغلا التجاهل والعجز الدولي، أن توفر السلام لدولة إسرائيل أو لشعبها! عملية طوفان الأقصى وما احتوته من تطوير نوعي معقد في نظم الحرب ومخادعة المخابرات الإسرائيلية ونظمها الدفاعية والاستباقية، أكدت أن حركة حماس تفرض واقعا عسكريا جديدا على إسرائيل، سيكون من الصعب تجاهله أو نسيانه لسنوات قادمة!
ستغير عملية طوفان الأقصى من القناعة الدولية التي سربتها إسرائيل وحلفاؤها في الغرب إلى المجتمع الدولي، وهي القناعة القائلة بأن الحل الاقتصادي للفلسطينيين عن طريق توفير بعض فرص العمل والبنية التحتية وإعطاء قدر من حرية الحركة في غزة والضفة مع نسخة مشوهة وباهتة من الحكم الذاتي قادر على الصمود باعتباره حلا سيرضى به الفلسطينيون وسينسون حقهم في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة!
ستغير عملية طوفان الأقصى من حالة البلادة والبرود التي أصابت عواصمنا العربية تجاه القضية الفلسطينية، وستضع ضغطا على صناع القرار في الدول العربية التي تقيم علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل على استخدام هذه القنوات الدبلوماسية للضغط على دولة إسرائيل لتقديم تصور مختلف لأوضاع الشعب الفلسطيني السياسية والإنسانية!
هناك مجزرة تلوح في الأفق وهي بالحسابات الإسرائيلية الرد الوحيد المناسب لإعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها! يعلم الإسرائيليون أن تصفية حماس والقضاء عليها بشكل نهائي هو أمر غير ممكن، كما أنهم يعلمون أن الحصول على الرهائن أحياء عن طريق تحريرهم بعملية عسكرية شاملة هو أمر غير محتمل، قد تكون هذه كلها أهداف معلنة من الجانب الإسرائيلي، لكن الهدف الحقيقى هو الانتقام العشوائى لحفظ الكبرياء ولا شىء غيره! لكن تكلفة هذا الانتقام لحفظ الكبرياء الإسرائيلي سيكون عالي التكلفة على النظام الدولي برمته!
فإذا استمرت الدول الغربية في موقفها الحالي دون تغيير من استهداف القطاع وتجويعه والتعامل مع الفلسطينيين والفلسطينيات كحيوانات محبوسة في قفص غزة، فإن التكلفة لن تكون فقط في فلسطين، ولكنها ستكون في شكل انفجارات مدوية على جميع الأصعدة في الشرق الأوسط وخارج الشرق الأوسط، فمزيد من العنف والدماء والحروب الأهلية والإرهاب سيكون في انتظار هذا النظام العالمي المعطوب بشكل قد يقودنا إلى حروب قد تتخطى المنطقة وقد تصل إلى ما يشبه حرب عالمية ثالثة بدون أي مبالغات!
("الشروق") المصرية