وجهات نظر

فلسطين... في التذكير بما هو بدهي!

مُغتًرًا بقوّته، وصفقاته "الترامبية"، وهيمنته المتَصوّرة، ومحتفيًا بالتطبيع العربي المجاني، ومبشّرًا أو طامعًا بشرق أوسط جديد يكون لإسرائيل فيه مكان ومكانة المركز، كان نتنياهو واضحًا، حين وقف على منصة الأمم المتحدة في الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر ليقول إنّ "القضية قد انتهت.. وليس للفلسطينيين حق الاعتراض".

فلسطين... في التذكير بما هو بدهي!

بعدها؛ بأسبوعين فقط، وبرسالة بطعم الاستشهاد دفاعًا عن "حق الاعتراض"، كانت رسالة الفلسطينيين أيضًا واضحة لنتنياهو، والذين معه. عنوانها الكبير: "القضية لم تنتهِ"، رغم كل الاتفاقات والتوقيعات (من غير ذوي العلاقة)، ورغم حصار السبعة عشر عامًا، ورغم الدماء وآلاف الضحايا على مدى الخمسة وسبعين عامًا. وأن لا أمن ولا أمان ولا شرق أوسط مستقرًا بلا إنهاء للاحتلال وعودة الحقوق لأصحابها والامتثال للشرعية الدولية.

لا جديد في الرسالة الفلسطينية، فمقاومة الاحتلال عرفناها في التاريخ الإنساني كلّه، ليس بداية من المقاومة الأوروبية "المسلحة" للاحتلال النازي، وليس نهاية بمقاومة الأوكرانيين "المسلحة" للغزو السوفياتي.

نفهم أنّ اعتبارات انتخابية، وتحيّزات أيديولوجية، وتوجسات إيرانية حكمت الموقف الأمريكي، فلم يتردد أنتوني بلينكن أن يقول إنه جاء إلى المنطقة "كيهودي"، في استحضار صارخ للعقيدة الدينية في غير موضعها.

استحضر الإسرائيليون خبراتهم في الاستفادة الدعائية من مذابح الهولوكوست، فبدأت آلاتهم الإعلامية في ضخّ الأكاذيب

ونفهم أنّ موروثًا تاريخيًا يُثقله "الإحساسُ بالذنب" كان وراء التصريحات والمواقف الألمانية. ونفهم أنّ رواسب ثقافة استعمارية حكمت التحركات البريطانية في المتوسط، والتصريحات "الماكرونية" في الإليزيه، ولكن ما بدا من مواقف "وبيانات عربية"؛ متردّدة، أو حتى متواطئة (للأسف) كان صادمًا، خاصة أنه تسلل من أروقة القصور (ملكية وجمهورية)، والتي نعرف حساباتها (طمعًا أو ضعفًا)، إلى أقلام البعض، وشاشات التلفاز، وساحات التواصل الاجتماعي الواسعة المفتوحة أمام أسراب الذباب الإلكتروني، والمحاولة الصهيونية الممنهجة والمستمرة لغسيل العقل العربي؛ محوًا للذاكرة، ومخاصمةً للمنطق.

استحضر الإسرائيليون خبراتهم القديمة في الاستفادة الدعائية من مذابح الهولوكوست، فبدأت آلاتهم الإعلامية الضخمة، في ضخّ الأكاذيب، بدايةً من القصة الكاذبة لذبح الأطفال الأربعين، التي ردّدها بايدن قبل أن يسارع مكتبه للتراجع عتها، وليس نهايةً بمحاولة الربط بين "حماس" وتنظيم "داعش"، إلى حد ترويج صور مكذوبة لأعلام التنظيم السوداء بزعم أن مقاتلي "حماس" (الذين نعرف اعتزازهم بأعلامهم الخضراء) تركوها وراءهم.

لسنا بحاجة إلى تذكيرنا ببدهية أن لا منطق في الدفاع عن استهداف "المدنيين العزّل"، ولكن وحتى بعيدًا عن إشكالية التعريف في الواقع الإسرائيلي الذي يحمل المستوطنون/المستعمرون "المدنيون" فيه السلاح، ويستخدمونه؛ ترهيبًا وقتلًا، وحرقًا للبيوت والمزارع (قبل يومين فقط أطلقوا النار على جنازة في نابلس المحتلّة فقتلوا فلسطينيين بين المشيّعين)، وبعيدًا عن ضرورة العودة إلى القرارات الدولية للتمييز بين "دولة الاحتلال"، والمواطنين تحت الاحتلال، وبين الضوابط القانونية لسلوك "الجيش النظامي" مقابل "جماعات المقاومة المسلّحة"، فلا منطق أيضًا في السكوت عن حقيقة أنّ "جيش الاحتلال" قتل في حربه على غزة 2014 بصواريخه "دقيقة التصويب" ما يربو على 2200 من المدنيين، بينهم 548 من الأطفال والرضّع و360 من النساء والشيوخ (الأرقام لمنظمة بتسيلم الإسرائيلية)، ناهيك عن القتل اليومي في الأشهر الأخيرة في غزة، والضفة الغربية (المحتلّة - وفق مقررات القانون الدولي).

الفلسطينيون ذهبوا إلى أوسلو قبل ثلاثين عامًا ليعودوا بوعد لم يتحقق أبدًا

كما لا منطق في أن ننسى السجل الطويل من المذابح، وجرائم الحرب بحق المدنيين الفلسطينيين على مدى ثمانية عقود، والتي وثّقها الإسرائيليون أنفسهم، من ذلك تسميمهم لآبار القرى العربية عام 1948 وهو ما كشفت عنه بالوثائق، الصحافة الإسرائيلية (Haaretz)، ومنها ما جرى في كفر قاسم 1956 وكشف عنه العراقي اليهودي لطيف دوري تحت عنوان "حصاد الدم". كما لا منطق في أن ننسى ما يُذكّرنا به كتّابٌ إسرائيليون مثل جدعون ليفي، وعميرة هاس في "هآرتس" الإسرائيلية، عن ما يقوم به جيش الاحتلال، والمستوطنون المسلّحون "المدنيون" من عمليات التطهير العرقي، ومصادرة الأراضي، واقتلاع العيون وتهشيم الوجوه، فضلًا عن الإذلال اليومي للفلسطينيين المدنيين، وعن الأبارتاهيد، والسجون المكتظة بالآلاف بلا محاكمة (نُذكّر بأنّ هؤلاء مواطنون تحت الاحتلال، فهل يحق لدولة الاحتلال محاكمتهم هكذا).

رغم كل ذلك، وتفصيله ممل، تذهب الآلة الإعلامية الإسرائيلية، ومعها المغَيبون، والمغِيبون إلى القول بأن "لا فائدة لأعمال المقاومة تلك… والتي لا نتيجة لها غير قتل مزيد من الفلسطينيين وتدمير بيوتهم". ونسي هؤلاء الناصحون أنّ الجزائر لم تتحرّر إلا بعد أن قدّمت مليونًا من الشهداء. وكذلك الحال في المدن والقرى الأوروبية التي واجهت النازي. كما غفل هؤلاء الناصحون عن حقيقة أنّ الفلسطينيين ذهبوا إلى أوسلو قبل ثلاثين عامًا ليعودوا بوعد لم يتحقق أبدًا "حل نهائي خلال خمسة أعوام يسفر عن دولة مستقلة قابلة للحياة". وأنّ العرب اختاروا السلام في بيروت عام 2002 (مبادرة الملك عبد الله) التي لم يرد عليها الإسرائيليون إلا بتغيير الواقع على الأرض إستيطانًا، وتهجيرًا قسريًا، وجدرانًا عازلة، وتطبيعًا مجانيًا مع "الأشقاء"… ثم بإعلان نتنياهو الأخير عن "نهاية القضية".

يقول البعض، في مصر وغيرها: "ما لنا وما للفلسطينيين. هذه ليست قضيتنا.. بيننا وبين الإسرائيليين معاهدة سلام". ولهم أقول: بل قضيتنا، إذا أدركنا المعايير الحقيقية للأمن "القومي"، وإذا استمعنا لخطاب بنيامين نتنياهو جيدًا، وإذا أمعنا النظر في خطة شيمون بيريز للشرق الأوسط الجديد. وإذا قرأنا جمال حمدان، ومحمد حسنين هيكل، وطارق البشري. وقبل ذلك كلّه، تذكّرنا أنّ المذابح الإسرائيلية للفلسطينيين سبقها مذابح إسرائيلية للمصريين تُعد جرائم حرب كشفت عنها الوثائق والصحف الإسرائيلية لا غيرها، منها ما جرى من قتل للأسرى المصريين الأحياء في 1967. (راجع ما فعله الإسرائيليون بالأسرى المصريين في حرب 1967)

لم تترك آلة البروباجندا الإسرائيلية ركنًا إلا وذهبت إليه، ولم تألو جهدًا في أن تستخفّ بعقولنا إلى درجة أنّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي لم يتردّد فى أن يعلّق (على صفحته الرسمية) على الضربات الصاروخية التي استهدفت المدنيين في غزة بالآية القرآنية الكريمة: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ الأنفال 17.

من اليهود الأصدقاء من يتبنّى الموقف ذاته من الاحتلال الصهيوني والممارسات العنصرية و"الجدار" و"الضم"

الاستخدام الديني، أو قل "الافتراء الديني" في حرب غسيل العقول تلك، بدأه الإسرائيليون منذ أشهر طويلة، فوجدنا من يخلط عمدًا (وبينهم نخب عربية للأسف) بين "إسرائيل"؛ الكيان الصهيوني المحتل بحكم القانون الدولي، وبين "بني إسرائيل"؛ الذين ورد ذكرهم في القرآن. ووجدنا من يروّج لحقّ الصهاينة المزعوم في أرض فلسطين، بالخلط المتعمد بين "إسرائيل/ يعقوب"؛ النبي، و"إسرائيل"؛ الكيان المحتل. رغبة في أن تنحرف البوصلة عن اتجاهها الصحيح ناسين أنّ مشكلتنا لم تكن يومًا مع اليهود؛ أتباع موسى عليه السلام، وإنما مع مع "دولة الاحتلال"؛ التوسّعية العنصرية، التي تهدّد أمننا القومي.

ولمن لا يعرف، هناك من اليهود الأصدقاء (ممن أعرفهم جيدًا) من يتبنى الموقف ذاته من "الاحتلال الصهيوني" لأراضي عربية، ومن "الممارسات العنصرية" للسلطة/الثقافة الحاكمة. ومن "الجدار"، ومن قرارات "الضم"، ومن غير ذلك من محاولات ناجحة لعرقلة أي حل سلمي عادل.

وبعد،

فهذا ليس دفاعًا عن عملية "حماس"، فحق مقاومة الاحتلال مكفولٌ بموجب كل الشرائع السماوية وكل القوانين الدولية ذات الصلة، وهو لم يكن يومًا بحاجة إلى تبرير أو دفاع، ولكنه تذكيرٌ ببدهيات يريد لنا الإسرائيليون والصهاينة أن ننساها. وتأكيدٌ على أنّ الحق في العيش في طمأنينة وسلام، هو حق للجميع دون تفرقة.

أتفهّم أنّ عداءً لـ"حماس"، (أو ما تُمثّله) قد يكون وراء موقف هذا أو ذاك، ولكن مهلًا يا سادة، فكما قلنا مائة مرة: "حماس" ليست غزّة.. وغزّة ليست فلسطين.. وخطة نتنياهو "الشرق أوسطية"، لن تأتي للمنطقة بأمن، ولا سلام، ولا استقرار، فضلًا عن أنها تهدّد الأمن القومي "العربي" بأجمعه. فاختاروا أماكنكم.

المشكلة ببساطة أنّ هناك "احتلالًا": الحق واضح والباطل واضح

على الأوروبيين الذين أجرموا بحق اليهود في النصف الأول من القرن الماضي، أن يدركوا أن لا ذنب للأبرياء في غزّة، والقدس، وسائر فلسطين. وعلى الإسرائيليين أن يتمعنوا فيما قاله باراك أوباما: Put Yourself in the shoes of Palestinians.

للتذكير:

- إسرائيل دولة احتلال، وهؤلاء جنود الاحتلال (حسب ما تقضي به الشرعية الدولية).

- "حق المقاومة" بكل وسيلة ممكنة مكفول في كل الشرائع السماوية، والقوانين الدولية (هنا رابط لقرار الأمم المتحدة ذي الصلة)

مكمن المشكلة ببساطة هو: أنّ هناك "احتلالًا". كلُ عدا ذلك تفاصيل.

يبقى من باب المفارقة، أن لا مشكلة لدي مع أصدقاء يهود لا يخرج ما يقولونه، أو يكتبونه في "هآرتس" أو غيرها من صحف غربية عن ما كتبته هنا، أما بعض "الأشقاء" العرب، فلعلي بحاجة إلى أن أقول لهم: الحق واضح.. والباطل واضح، فلا تفعلوا مثلما فعلوا يومًا بالتخفي وراء حجة إنّ الأمر "تَشَابَهَ عَلَيْنَا".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن