أما عن حركة التاريخ، فقد كتب ٧ أكتوبر/تشرين الأول٢٠٢٣ فصلًا جديدًا مجيدًا في تاريخ حركات التحرّر العربية، وليست مصادفة بالتأكيد أن يختار أبطال المقاومة يوم السبت ٧ أكتوبر لتسطير ملحمة مقاومتهم للاحتلال الصهيوني بعد نصف قرن من السبت ٦ أكتوبر/تشرين أول ١٩٧٣، فالجوهر واحد والدلالات واحدة، وهي أنّ كلّ استعمار وكلّ احتلال إلى زوال مهما طال الزمن، وأنّ الخلاص من كلاهما عملية تاريخية معقّدة وممتدة تدفع الشعوب المضطهدة فيها أثمانًا باهظة، وتقدّم تضحيات هائلة، لكنها تحقق النصر في النهاية مهما طال الزمن، وقد استمر الاستعمار والاحتلال الفرنسي للجزائر ما يقارب القرن وثلث القرن، وقدّم الشعب الجزائري فيه مليونًا ونصف المليون من أبنائه شهداء، لكنه ظفر باستقلاله في النهاية، ويعني هذا أننا نشهد اليوم فصلًا مجيدًا من نضال الشعب الفلسطيني في سبيل استقلاله يُمثّل خطوة بالغة الأهمية على طريق التحرّر الذي سيأتي يومًا بكل تأكيد مهما عظمت التضحيات.
جرائم الاستعمار والاحتلال قائمة تاريخيًا بغض النظر عن النضال المسلّح للشعوب المقهورة
وأتأمّل ثانيًا في دلالة ما يجري على أرض غزّة الصامدة الباقية المنتصرة بإذن الله، بالنسبة لموازين القوى في الصراعات، فالمعركة التي بدأت في غزّة اعتبارًا من ٧ أكتوبر/تشرين أول ٢٠٢٣ تدور رحاها بين طرفين يتّسم توازن القوى التقليدية بينهما بالاختلال الشديد لصالح المستعمر على حساب الشعب الخاضع للاحتلال، لكن ثمّة وسائل أثبتت جدارتها تاريخيًا لتعويض هذا الخلل تتمثّل في الإيمان بالقضية، وعبقرية التخطيط واكتمال الاستعداد، وابتكار الوسائل التي تبدو بدائية بالنسبة لترسانة الأسلحة الإسرائيلية لكنها صُمّمت لكي تناسب طبيعة المعركة، وأثبتت جدارتها في اقتحام المواقع التي استهدفتها المقاومة، وتكبيد العدو خسائر فادحة مادية وبشرية بما في ذلك العدد غير المسبوق من الأسرى والرهائن، والصمود في ميدان القتال لعدّة أيام.
بل إنّ الأمر احتاج أن تُرسل الولايات المتحدة أكبر حاملات طائراتها وقوة خاصة لتحرير الرهائن تحسّبًا للاحتمالات في حرب بين فصائل مقاومة وإسرائيل التي لا يمكن مقارنة قوّتها العسكرية بأي معيار مع فصائل المقاومة الفلسطينية مجتمعة، ومع ذلك فقد حدث الإنجاز العظيم، وهو ليس الأوّل من نوعه، فقد هُزِمَت الولايات المتحدة في فيتنام في سبعينات القرن الماضي، ولقيت هزيمة أخرى في غزوها للعراق ٢٠٠٣ وثالثة في أفغانستان ٢٠٢١ بعد عشرين سنة كاملة من التدخل العسكري لتنسحب انسحابًا مهينًا الأهم منه أنها تركت أفغانستان في أيدي طالبان التي كان هدف الغزو الأمريكي لأفغانستان ٢٠٠١ هو إزاحتها من السلطة، وأُذَكِّر بهذه الحقائق التاريخية ردًا على من يُنْذِرون المقاومين بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأن الجرأة واتتهم لتحدي قوى الهيمنة، وكأنّ البدائل كانت متاحة لهم للتحرّر بوسائل سلمية ورفضوها.
سيستمر نضال الشعب الفلسطيني في كل مكان يوجد فيه أبناؤه، وسيدعمه أنصار الحرية وسيكون النصر حليفه
بقي التأمّل الثالث عن مستقبل الصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وهو تأمّل مهم فيمن يشككون في ما فعلته المقاومة في "طوفان الأقصى"، وكيف أنه سوف يفضي إلى وضع نهاية للقضية بعد أن تقوم آلة التدمير الإسرائيلية الرهيبة بتدمير غزة بالكامل انتقامًا لخسائرها واستردادًا لهيبتها، وهؤلاء لا يفهمون من خبرة التاريخ حرفًا واحدًا، وأُذكّرهم مجرّد تذكرة بالتضحيات الهائلة التي قدّمها شعب الجزائر لا في معركته الأخيرة للتحرّر (١٩٥٤-١٩٦٢) فحسب، ولكن منذ بدأ الاحتلال الفرنسي في١٨٣٠، وكيف أنّ آلة القتل الفرنسية قد وُظّفت ضد الشعب الجزائري المسالم قبل أن يبدأ نضاله المسلّح الأخير بكثير، فجرائم الاستعمار والاحتلال قائمة تاريخيًا بغض النظر عن النضال المسلّح للشعوب المقهورة. وهل بدأت جرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني بعد أن رفع السلاح في وجه مغتصبي أرضه وحقوقه أم أنها كانت سمة بنيوية منذ خطوات التأسيس الأولى لدولة إسرائيل؟.
فليتوقف الناصحون المرتجفون أو المتواطئون عن نصائحهم المسمومة، فلم يأتِ التحرّر إلا ثمرة لإشهار المقاومة في مواجهة العدو أيًا كانت أساليبها، وقد تؤدي هذه الجولة إلى إسكات صوت غزة بعض الوقت، لكنها لا بد ستقوم من تحت الركام، وسيستمر نضال الشعب الفلسطيني في كل مكان يوجد فيه أبناؤه، وسيدعمه أنصار الحرية في كل مكان، وسيكون النصر حليفه بإذن الله.. "وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون".
(خاص "عروبة 22")