إذا كانت الحرب هي استمرار للسياسة وصراعاتها ولكن بأدوات أخرى، فإن لكل حرب أيضا مجموعة من المستفيدين من نشوبها والمعتاشين على طول أمدها وذلك على الرغم مما تسببه من دماء وفظائع ودمار ومن خسائر للمتورطين فيها. وليست الحرب في غزة باستثناء على هذه القاعدة.
يواجه أهل غزة جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في القطاع ويسقط منهم يوميا مئات الأشخاص المدنيين بين قتلى وجرحى إلى الحد الذي اقتربت معه حصيلة الموت من ١٠ آلاف بريئة وبريء وحصيلة الأشخاص المصابين من أضعاف هذا الرقم. غير أن حماس والفصائل الأخرى ــ وهي أشعلت هذه الجولة من الصراع مع المحتل الإسرائيلي وخلطت بين أفعال المقاومة المشروعة للاحتلال، وهي وفقا لقواعد القانون الدولي ترتبط دوما بأهداف عسكرية ولا تتضمن الاعتداء على سكان مدنيين أو منشآت مدنية، وبين جرائم قتل وخطف المدنيات والمدنيين، ولا يمكن هنا تجريد المستوطنين الإسرائيليين غير المنضمين إلى جماعات مسلحة من كونهم مدنيين على الرغم من أن الاستيطان في أرض الغير يمثل انتهاكا للقانون الدولي ــ تعد من المجموعات المستفيدة من الحرب سياسيا بتقديم نفسها كالقوى الفلسطينية الوحيدة التي تقف في وجه الاحتلال، ودعائيا بالترويج لأعمالها العسكرية في مواجهة القوات الإسرائيلية كانتصارات مبهرة على العدو، وشعبيا بترجمة يأس أهل غزة من تواصل الحصار على القطاع وبأس أهل الضفة والقدس من اشتداد انتهاكات إسرائيل والمستوطنين إلى تأييد لمواقفها على الرغم من الحصيلة الدامية والمدمرة للحرب والمأساة الإنسانية في القطاع الذي هجر به داخليا ثلث أهله وعادت مدن الخيام للتواجد على أرضه.
بالقطع، لم يكن لكثير من هذا أن يحدث لولا الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ ما يقرب من عقدين من الزمان ولولا تمادي تهميش السيادة الفلسطينية على الضفة الغربية والقدس الشرقية بسبب توسع الاستيطان وجرائم المستوطنين المسلحين وغياب أفق التسوية السياسية على قاعدة حل الدولتين.
أما في إسرائيل، ومجتمعها وسياستها ومؤسسات الحكم فيها لم تزل تحت وقع صدمة القتل والخطف في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ والنزوع الانتقامي المسيطر على الرأي العام هناك لم يتغير ويرتب شعبية سيناريوهات كارثية وغير قابلة للتحقيق كالإخلاء الكامل لغزة من السكان بتهجيرهم قسريا أو الاستئصال الكامل لحماس وإنهاء وجودها في القطاع ليس فقط العسكري بل السياسي والأيديولوجي أيضا وهو أمر أقرب إلى المستحيلات، هناك مجموعات كثيرة من المستفيدين من الحرب ومن انفلات آلة القتل تجاه غزة من كل حسيب ورقيب. من جهة، تستفيد أحزاب اليمين المتطرف كما تستفيد جماعات المستوطنين المتطرفين من الحرب لكي تصعد تجاه الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس وتواصل ممارسات الاستيطان والتهجير والقتل على الهوية وترفع درجات العنف والتوتر. بل، وتروج بعض جماعات المستوطنين للعودة إلى غزة بعد طرد الفلسطينيين منها وفرض إسرائيل الكبرى على كل أرض فلسطين واقعا بالسيطرة الكاملة على الأراضى الفلسطينية المحتلة.
يستفيد من الحرب أيضا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي كان دوره السياسي يوشك على الانتهاء على وقع الأزمة الداخلية بسبب «الإصلاح القضائي» المقترح منه ومن دوائر اليمين الديني والمتطرف المتحالفة معه والذي سبب استقطابا حادا في إسرائيل بين تحالف نتنياهو وبين قوى الوسط ويمين الوسط المعتدلة وقوى اليسار المدافعة عن الديمقراطية. كان دور نتنياهو يوشك على الانتهاء، ثم جاء ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ ليعطي له مخرجا من أزمته الداخلية في لحظة مواجهة مع حماس تراها أغلبية الشعب الإسرائيلي كتهديد وجودي لأمنهم وحياتهم، ففي لحظة المواجهة والتهديد تتحد الصفوف وتشكل حكومات الوحدة الوطنية وفي فترات الحروب لا يعلو صوت التنازع حول الديمقراطية على صوت المعركة. وهذا هو واقع الحال في إسرائيل اليوم. وعلى الرغم من أن نتنياهو وحكومته يتوقع لهم الرحيل بعد الحرب، وترفع من أسهم ذلك التوقع الأخبار المتداولة عن إخفاقهم في توقع هجوم حماس والتحسب له على الرغم من تحذيرات سبقت (تقرير أفيجدور ليبرمان)، إلا أن الحرب التي لا يعرف أحد إلى اليوم الأمد الزمني الذي ستصل إليه تطيل اليوم في عمرهم السياسي وتفتح نظريا بابا ضيقا لبقائهم إن حققت إسرائيل كل أهدافها المعلنة من الحرب وهو أمر، كما أشرت أعلاه، يقترب من المستحيلات.
إذا كانت السلطة الفلسطينية ومصر والأردن كأطراف معنية على نحو مباشر بالحرب وبأوضاع غزة والدماء التي تسيل والدمار الذي يحدث هناك والتصعيد الخطير في الضفة والقدس تواجه اليوم تهديدات كبيرة تطال في حال السلطة في رام الله شرعية الوجود والبقاء بينما تطال مرتكزات الأمن القومي في البلدين المجاورين للأراضي الفلسطينية، فإن ثمة أطرافا إقليمية أخرى تستفيد من الحرب لأجنداتها السياسية وحسابات مصالحها.
والإشارة هنا إلى إيران والحركات المعسكرة التابعة لها في العراق ولبنان واليمن وامتداداتها في سوريا، فتلك القوى جميعا تستفيد من الحرب ومن انهيار الأوضاع الأمنية في فلسطين وفي إسرائيل لتحقيق مكاسب عديدة أبرزها توسيع مساحات حركتها السياسية المرتبطة دوما بغياب الأمن والاستقرار وتآكل مؤسسات الدولة الوطنية، والمرتبطة أيضا بإظهار العداء اللفظي ذي التكلفة العسكرية المحدودة لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وعموم الغرب (مقولات محور المقاومة) وحصد شعبية زائفة بين قطاعات الشعب الفلسطيني والرأي العام العربي والإسلامي المتأثر بشدة مما يحدث في غزة. لا تريد إيران ولا حركاتها التورط في الحرب ولا في مواجهات عسكرية مع إسرائيل أو مع الدولة العبرية والولايات المتحدة صاحبة الوجود العسكري في الشرق الأوسط، بل يبحثون فقط عن الاستفادة سياسيا ودعائيا وشعبيا من الحرب بمناوشات صغيرة في جنوب لبنان ومسيرات خطيرة تطلقها تارة جماعات الحوثي وتارة أخرى ميليشيات الحشد الشعبي من العراق، مناوشات محسوبة التكلفة ولا تفتح أبواب المواجهة الواسعة أو الحرب الإقليمية.
أما تركيا، وبعد أن أعادت موضعة سياستها تجاه البلدان العربية والشرق الأوسط وفقا لمبدأ «صفر صراع»، فتضغط عليها الحرب بشدة وتدفعها مرة للمطالبة بوقف إطلاق النار والتفاوض ومرات بتصعيد المواجهة الدبلوماسية مع إسرائيل، وهي مواجهة لا ترغب فيها.
أخيرا، وعلى عكس الكثير مما يكتب ويقال فلسطينيا ومصريا وعربيا عن كون الولايات المتحدة ومعها الحلفاء من الأوروبيين من المستفيدين من الحرب لكي تعيد الولايات المتحدة موضعة وجودها في الشرق الأوسط وتفرض هيمنتها العسكرية والسياسية عليه بعد انسحاباتها من العراق وأفغانستان وانتكاساتها الدبلوماسية خلال السنوات الماضية، فإن واقع الأمر هو أن الولايات المتحدة لم ترد الحرب الراهنة ولم ترغب في استنفار أدواتها العسكرية لكي تأتي إلى المنطقة لمنع تحول حرب إسرائيل على غزة إلى حرب إقليمية وردع إيران وأتباعها، ولم تبحث عن استغلال الحرب للعودة كقوة مهيمنة. تخسر الولايات المتحدة، ويدرك صناع القرار في إدارة جو بايدن ذلك، لأن انحيازها لإسرائيل يعيدها إلى المربع صفر في نظرة الرأى العام العربي والإسلامي لها ويوتر علاقاتها مع الحكومات العربية الصديقة التي كان الجانب الأمريكي يرغب في بناء سلام وترتيبات أمنية لهم تدمج الدولة العبرية ويضغط على القوة العظمى لصياغة سياسة تجاه القضية الفلسطينية وهي ابتعدت عن ذلك طوال السنوات الماضية. بل إن الحرب والانحياز الأمريكي وازدواجية المعايير فيما خص الموقف من قتل المدنيين في إسرائيل وقتل المدنيين في فلسطين، جميعها عناصر تسقط المصداقية العالمية للخطاب الأمريكي حول حقوق الإنسان، وكذلك مصداقية استدعاء القيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي لرفض ما تمارسه روسيا بالعدوان والغزو والاحتلال الموجه إلى أوكرانيا نظرا لصمت القوة العظمى على أفعال مطابقة تقوم بها إسرائيل. بل وتهدد ذات العناصر الداخل الأمريكي نظرا لشعور الجاليات العربية والإسلامية بازدواجية المعايير تجاه الشعب الفلسطيني وإدراكهم لعنصرية التعامل مع مصاب أهل غزة، وهو ما قد يرتب توترات وحوادث عنف ستكون ذات مردود خطير وقد يتواكب مع تصاعد أخطار العمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة من خارجها بسبب رفض الرأي العام الفلسطيني والعربي والإسلامي لانحيازها. وينطبق ذات التحليل بكامل مكوناته على البلدان الأوروبية الكبيرة كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
غير أن للحرب مجموعة من المستفيدين على المستوى العالمي. فلكونها أبعدت أنظار الرأي العام العالمي عن الحرب الروسية ــ الأوكرانية وتفاصيل معاركها اليومية التي تصدرت نشرات الأخبار منذ ربيع ٢٠٢٢، فإن روسيا تعد من المستفيدين من حرب غزة حيث تواصل عملياتها العسكرية دفاعا وهجوما دون متابعة عالمية. وتستفيد أيضا من انهيار مصداقية خطاب الولايات المتحدة وأوروبا بشأن تجريم العدوان والغزو والاحتلال نظرا لصمت الغرب على جرائم إسرائيل. وقد تستفيد روسيا ومعها الصين على المستويات الاستراتيجية والعسكرية وفي سياق منافستهما للولايات المتحدة ورغبتهما في بناء منظومة عالمية جديدة لا يهيمن عليها قطب أوحد، قد تستفيد الدولتان من التورط الأمريكي والأوروبي في رمال الشرق الأوسط المتحركة ومن الاستنزاف المتوقع لإمكانيات الغرب بين ظهرانينا.
("الشروق") المصرية