الخميس الماضي، تبنى مجلس الأمن قرارا «أعرج» و«بلا أنياب» يدعو إلى «إقامة هُدن وممرات إنسانية عاجلة في جميع أنحاء قطاع غزة، والإفراج الفوري عن جميع الرهائن».
القرار «الكسيح» جاء بعد أكثر من 40 يوما من الحرب النازية الإسرائيلية على قطاع غزة، التي لا تزال تدور رحاها بعنف حتى الآن، وتستهدف المنشآت المدنية والطبية، والمساكن، والمدارس، والمساجد، والكنائس في حرب تشبه إلى حد كبير حروب التتار القديمة، وتفوقت على ما كان يحدث في معسكرات النازية، حيث تستهدف إسرائيل، بدعم كامل من أمريكا، إبادة الفلسطينيين، وإجراء عمليات تطهير عرقي، سواء من خلال عمليات القتل الجماعي بالطائرات والدبابات، أو من خلال عمليات المحاصرة، واستخدام الماء والغذاء والدواء والوقود ضمن عمليات التطهير العرقي في جرائم حرب غير مسبوقة.
أكثر من 40 يوما ولا تزال دائرة النار مشتعلة في قطاع غزة بدعم غير مسبوق من أمريكا والتحالف الغربي، ووسط حالة من التخبط بشأن سيناريوهات مستقبل غزة، بعد أن تضع تلك الحرب اللعينة أوزارها، التي لا أحد يملك حتى الآن إجابة قاطعة حول مدتها الزمنية في ظل فشل مجلس الأمن في إصدار قرار ملزم بوقف فوري لإطلاق النار نتيجة استخدام أمريكا حق النقض (الفيتو) في إجهاض القرارات التي تبنتها المجموعة العربية في مجلس الأمن، وساندتها بقوة روسيا والصين والعديد من الدول الأعضاء بمجلس الأمن إلا أن «الفيتو» الأمريكي وقف بالمرصاد لكل هذه المحاولات.
نجاح المحاولة الأخيرة في مجلس الأمن، الخميس الماضي، وإصدار قرار «الهُدن الإنسانية» يمكن أن يكون بارقة أمل، كما أوضحت وزارة الخارجية المصرية، إذا ما تم تنفيذه بالكامل، وإقامة ممرات إنسانية، وفرض «هُدن» ممتدة لعدد كاف من الأيام، لضمان وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى كل أبناء القطاع، مع التوقف تماما عن سياسة حرمان السكان من الخدمات الأساسية، واحترام قواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني فيما يتعلق بتوفير الحماية للمدنيين، ولا سيما النساء والأطفال والعاملين في المجالات الطبية والإنسانية.
للأسف الشديد، فإن ممارسات جيش الاحتلال الإسرائيلي وعدوانيته الشديدة سوف تدمر هذا القرار قبل تنفيذه، فهو قرار ولد «ميتا»، لأنه في اعتقادي ان أمريكا «تركته يمر» ذرا للرماد في العيون، بعد أن تضررت سمعتها بشدة، وفقدت مصداقيتها كوسيط نزيه وعادل في الصراع بمنطقة الشرق الأوسط.
لكل هذا، فإن الأزمة الحقيقية الآن تكمن في مساندة أمريكا العدوان الإسرائيلي، وعدم وجود رغبة حقيقية لدى الإدارة الأمريكية في «وقف فوري للحرب» على الرغم من تصاعد أرقام الضحايا إلى أرقام غير مسبوقة، تجاوزت أكثر من 12 ألف قتيل، أكثر من 70% منهم من الأطفال والنساء، هذا غير الأعداد الضخمة من المفقودين الذين ما زالوا مطمورين تحت أنقاض المنازل والمنشآت التي تم قصفها طول 42 يوما من القتال غير المتكافئ بين قوات جيش الاحتلال المدعوم بدعم أمريكي كامل، وبين فصائل للمقاومة محرومة من الغذاء والدواء والماء، وشعب محاصر تحت نيران القنابل، وقصف المدافع والطائرات، ويفتقد إلى أبسط الخدمات الإنسانية العاجلة.
في ظل هذه الأوضاع المعقدة، عسكريا وسياسيا وإقليميا ودوليا، يبقى السؤال: إلى أين غزة بعد الحرب؟.
سيناريوهات متعددة مطروحة، منها ما هو شديد القتامة والتشاؤم، وهو ما يريده العدو الإسرائيلي بإعادة احتلال قطاع غزة، وفرض سياسة التهجير على السكان، وإخلاء القطاع، وإعادة زرع المستوطنات السرطانية الإسرائيلية فيه.
إلى جانب هذا السيناريو، هناك سيناريو آخر يتعلق بإعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، لتدير أموره كما يحدث في الضفة الغربية، إلى جانب سيناريوهات أخرى تتعلق بمشاركة دول الجوار والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة في إدارة القطاع.
من أبرز وأهم الدراسات التى تناولت مستقبل قطاع غزة بعد الحرب ما خرج عن المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية أخيرا بعنوان «سيناريوهات مستقبل غزة والدور المصري»، التى اشتملت على دراسة معمقة، ورؤية للعديد من الخبراء المنخرطين في قضايا الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
الدراسة ناقشت العديد من السيناريوهات والتصورات المقترحة، بما فيها من نقاط ضعف أو آثار سلبية، لعل أبرزها ما يلي:
أولا: تجاهلت معظم التصورات المقترحة حتى الآن ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وهو ما يجعل السيناريوهات المقترحة تنحاز في معظمها إلى الرؤية الإسرائيلية، وإلقاء التبعية على أطراف إقليمية ودولية، كما حدث في قرار مجلس الأمن الأخير الخاص بالهدّن الإنسانية.
ثانيا: اقتصار السيناريوهات المطروحة على الأوضاع المستقبلية لقطاع غزة فقط بعيدا عن مستقبل الدولة الفلسطينية، وإقامتها طبقا لقرارات الشرعية الدولية، مما يعني تقزيم القضية الفلسطينية، وحصرها في الحديث عن مستقبل غزة.
ثالثا: تركيز الرواية الإسرائيلية المدعومة من الغرب على هدف القضاء على «حماس» في حين فشلت العملية العسكرية الإسرائيلية، على الرغم من مرور كل هذه الفترة على تحقيق هذا الهدف، وهو ما يؤكد أن إسرائيل تريد إخفاء حقيقة أن حملتها العسكرية تستهدف القضاء على الفلسطينيين، وليست حماس فقط من خلال تبني سياسة العقاب والإنهاك الجماعي، ومنع المساعدات الإنسانية عن عموم السكان القاطنين قطاع غزة.
رابعا: أغلب التصورات الغربية لا تتبنى التسوية السلمية كضرورة ملحة، وإنما هي مجرد «طرح مؤقت»، للخروج من مأزق الحرب الحالية، وبالتالي، فإن هذه التصورات لا تقدم مكاسب حقيقية مقنعة للشعب الفلسطيني، سواء الذى يعيش في قطاع غزة أو تحت مظلة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
بعيدا عن تلك السيناريوهات «المأزومة» والتصورات «المنقوصة»، فقد طرحت الدراسة رؤية مصرية شاملة باعتبارها الرؤية المتكاملة بهذا الملف الشائك، وباعتبار أن الدور المصري هو «العامل المرجح» في كل السيناريوهات المستقبلية.
ترتكز الرؤية المصرية للصراع العربي ـ الإسرائيلي على الاعتقاد الجازم بأنه لا سبيل لحل القضية الفلسطينية سوى من خلال حل الدولتين، وأن تصورات البعض بشأن جدوى الحل أو الحسم العسكري لهذا الصراع هي خارج إطار الواقع، ولا يمكن القبول بها، وأن السياسة الإسرائيلية القائمة على إغلاق الأفق السياسي أمام الفلسطينيين ستكون عواقبها وخيمة، وأنه لا بديل عن إحياء المسار السياسي.
أوضحت الدراسة بشكل قاطع أن التصور المصري لليوم التالي للحرب يقوم أولاً على ضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار، وأن حديث اليوم التالي يجب ألا يقتصر على قطاع غزة، بل يشمل القضية الفلسطينية كلها باعتبار أن الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة وحدة سياسية واحدة، تشكل معا الدولة الفلسطينية التي يجب قيامها، والاعتراف بها من الجانب الإسرائيلي إذا كانت إسرائيل راغبة في السلام الدائم والعادل.
تلك هي خلاصة الدراسة المهمة التي خرجت في توقيتها الصحيح، لتصحيح مفاهيم خاطئة تروجها إسرائيل بدعم من أمريكا وبعض الدول الغربية حول اختصار الأزمة الحالية في عملية «طوفان الأقصى»، وعدم العودة إلى «جذر» المشكلة كما أوضح الرئيس عبدالفتاح السيسي في كل محادثاته ولقاءاته قبل وبعد الأزمة الحالية، في إطار رؤية مصرية شاملة لهذا الملف الحيوي، مستمدة من الدور المصري القوي والفاعل في الصراع العربي ـ الإسرائيلي على مدى 75 عاما «حربا وسلما».
("الأهرام") المصرية