وجهات نظر

تأمّلات في التقصير العربي

أظهرت مقالتي السابقة على هذه المنصّة، كيف أنّ الفارق الأساسي بين إنجازَي ٦ و٧ أكتوبر/تشرين الأول، هو أنّ الحالة الأولى جسّدت معادلة نموذجية للأمن القومي العربي، ومشاركة فاعلة من الدول العربية بالأدوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية على العكس من المواجهة الراهنة، ولا يختلف اثنان على أنّ سقف الدعم العربي لملحمة المقاومة الفلسطينية الحالية منخفض بوضوح عن الحد الأعلى الممكن، وهي ظاهرة ليست بالجديدة.

تأمّلات في التقصير العربي

فقد تطوّرت المواقف العربية تجاه المقاومة الفلسطينية من الدعم السياسي والدبلوماسي والعسكري في ستينات القرن الماضي ومطلع سبعيناته، إلى الاكتفاء بالدعم اللفظي والاقتصادي الذي كان كثيرًا ما لا يتم الالتزام به إلى أن وصلنا في مطلع القرن الحالي إلى "الاعتراض" على المقاومة، كما حدث في موقف عدد من الدول العربية إزاء العدوان الإسرائيلي على لبنان في ٢٠٠٦، وإن كان التأييد الكاسح من قِبَل الرأي العام العربي للمقاومة اللبنانية وصمودها آنذاك قد أجبر النظام العربي الرسمي ممثّلًا في المجلس الوزاري العربي على أن يراجع موقفه في اجتماعه الطارئ في بيروت في أغسطس/آب ٢٠٠٦.

ولا شك أنّ هذا الاعتراض يتكرّر الآن وإن بشكل جزئي وخفي، غير أنّ المؤكد أنّ سقف المواقف العربية الداعمة للمقاومة هو دون المأمول بكثير، وتُظْهِر مخرجات القمة العربية-الإسلامية الأخيرة أنّ محاولات بعض الدول زيادة فاعلية الموقف العربي بإجراءات دبلوماسية خشنة أو لجوء إلى استخدام أدوات الضغط الاقتصادي لم تحظَ بتوافق عربي.

تتعدّد الحجج التي تدافع بها بعض الدول العربية عن مواقفها التي لا تلبي طموحات البعض الآخر، وقد يكون لحجة ما أو أخرى شيء من المنطق، غير أنّ هذه المقالة لا تهدف إلى مناقشة هذه الحجج لأنّ فكرتها الأساسية تتمثّل في أننا حتى لو سلّمنا بمنطقية هذه الحجج فإنّ ثمّة تقصيرًا واضحًا في المواقف العربية لا علاقة له بأي مواقف خشنة دبلوماسيًا واقتصاديًا، وهو التقصير في المجالين القانوني والإعلامي.

أخشى أن تضيع الفرصة التي قدّمتها لنا إسرائيل على طبق من ذهب لإدانتها قانونيًا وفضحها إعلاميًا

فقد ارتكبت إسرائيل من الجرائم ما يكفي ويزيد لملاحقتها وإدانتها قانونيًا وفضحها إعلاميًا، وقد تضمّنت قرارات قمة الرياض الأخيرة في بندَيها التاسع والعاشر ما يفيد الملاحقة القانونية والفضح الإعلامي لإسرائيل، إذ أشار البند التاسع إلى مسار طلب الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، والسماح للجنة التحقيق المنشأة بقرار مجلس حقوق الإنسان التحقيق بهذه الجرائم وعدم إعاقتها، كما كلّف البند العاشر أمانتَي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي بإنشاء وحدتَي رصد إعلامي لتوثيق كل جرائم سلطات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، ومنصات إعلامية تنشرها، وتعرّي ممارساتها اللاشرعية واللاإنسانية.

وقد سرّني دون شك أن يُصدر الأمين العام لجامعة الدول العربية قرارًا بعد خمسة أيام من انتهاء أعمال القمة بتأسيس الوحدتين المذكورتين، ولكني لاحظت أنهما أُلحقتا بهيكل قطاع فلسطين والأراضي المحتلة، وهو ما يجعلني أخشى عليهما من أن يواجها مصير مجلس السلم والأمن العربي نفسه الذي لم يفِ بمسؤولياته نتيجة شح الموارد ونقص الكوادر ناهيك بغياب الإرادة السياسية للدول، وكنت أتصوّر أن تهتم القمة بضمان توفير مقوّمات العمل والنجاح لهاتين الوحدتين، لأنّ العمل ليس هيّنًا، وأخشى أن تضيع الفرصة التي قدّمتها لنا إسرائيل على طبق من ذهب لإدانتها قانونيًا وفضحها إعلاميًا، خاصة وقد أدت جرائم إسرائيل وصمود أهل غزّة ومقاوميها في وجه هذه الجرائم إلى تحوّلات حقيقية في الرأي العام العالمي.

غير أنّ الحديث يجب أن لا يقتصر على الصعيد الرسمي، ذلك أنّ المستوى غير الرسمي يجب أن يتحمّل مسؤولية خاصة في هذا الصدد، ولديّ انطباع أرجو أن يكون خاطئًا، وهو أنّ جل قوى المجتمع المدني العربي على اهتمامها الفائق بنصرة المقاومة ودعمها تتحاور أساسًا مع نفسها، وتتبادل مقاطع الڤيديو ومقالات الرأي التي تُظْهِر إنجازات المقاومة وصمود الشعب في غزّة، بل وتتبادل في اعتزاز مقاطع ڤيديو صنعها أوروبيون أو أمريكيون حول إدانة إسرائيل وجرائمها، ولم أرَ - وقد يكون هذا تقصيرًا مني - نشاطًا عربيًا يرقى إلى مستوى الأحداث يعرض لجرائم إسرائيل ويفضحها في الساحة الدولية.

المحاكمات الشعبية لإسرائيل في البلدان الأوروبية المتعاطفة معنا سوف يكون لها صدى كبير

ومن المؤكد أنّ الجاليات الفلسطينية والعربية في الخارج تقوم بواجبها وفق إمكاناتها، لكني أتحدث عن قوى المجتمع المدني العربي ومؤسساته، وما يُنتظر منها من جهد على سبيل المثال في تنظيم محاكمات شعبية لإسرائيل في البلدان الأوروبية المتعاطفة معنا، وعلى رأسها أيرلندا وإسبانيا وبلجيكا وغيرها، وكذلك في البلدان المماثلة في أمريكا اللاتينية، وسوف يكون لهذه المحاكمات صدى كبير، بخاصة مع التحوّلات الواضحة في توجهات الرأي العام العالمي، مع التفكير في الإمكانية القانونية لاقتحام قلاع الصهيونية في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية المنحازة انحيازًا سافرًا لإسرائيل.

كذلك أحلم بمنتج إعلامي وسينمائي يبادر به رواد إعلاميون وسينمائيون عرب، من المؤكد أنه سوف يكون أكثر قدرة على فضح إسرائيل دوليًا، وإذا كان بعضنا أو معظمنا غير قادر أو غير راغب في استخدام آليات خشنة ضد جرائم إسرائيل ففي القوة الناعمة متسع لدعم شعب فلسطين ومقاومته الباسلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن