قبل عام، وبعد فوز دونالد ترامب بانتخابات 2024، كتب الأكاديميان ستيفن ليفيتسكي، من جامعة هارفارد، ولوكـان واي، من جامعة تورونتو الكندية، دراسة معمقة في دورية "فورين آفيرز" الشهيرة، توقعا فيها أن تنحدر الولايات المتحدة من نظامها الديمقراطي التنافسي إلى السلطوية التنافسية خلال فترة حكم ترامب الثانية. وتوقع الكاتبان أن ترامب، مثله مثل قادة منتخبين مستبدين في أماكن أخرى من العالم، سيتحرك بسرعة لحشد مؤسسات الدولة الأمريكية ثم استخدامها في محاولات متنوعة لإضعاف أو ترهيب منافسيه وخصومه السياسيين.
بعد ما يقرب من عام في الحكم، قامت إدارة ترامب بما توقعه الكاتبان بالضبط. وخلال الأحد عشر شهرًا الماضية، استهدف ترامب مؤسسات الدولة الأمريكية، وخاصة وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ومصلحة الضرائب، لاستخدامها ضد خصومه والانتقام من أعدائه السياسيين. وقام ترامب بما يقوم به أي حاكم مستبد، من الادعاء بتطهير مؤسسات الدولة وتعبئتها بأنصاره. وكما فعل حكام مستبدون مثل رؤساء المجر وتركيا وفنزويلا، تخلص ترامب من الموظفين البيروقراطيين المحترفين في وزارة العدل، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووكالات حكومية رئيسية أخرى.
وعاد الكاتبان بعد أن انضم إليهما الأكاديمي دانيال زيبلات من جامعة هارفارد، بدراسة جديدة تُنشر في عدد يناير – فبراير المقبل من دورية "فورين آفيرز"، يرصدون فيها سجل ترامب في الانحدار بالديمقراطية الأمريكية بكفاءة ومهارة غير متوقعتين من رئيس منتخب دون أي خبرات سياسية سابقة. جادل الكُتاب بأن العديد من النخب السياسية الأمريكية، والكثير من وسائل الإعلام، وكبريات شركات المحاماة، أصبحوا راضين عن تآكل الديمقراطية، اعتقادًا منهم بأن النظام الأمريكي مرّن، أو أن التهديدات السابقة المماثلة، خاصة المرتبطة برئاسة دونالد ترامب الأولى، كانت مبالغًا فيها، لأن المؤسسات نجت من تلك الضغوط السابقة.
ووفقًا للمؤلفين، لم تعد الديمقراطية في الولايات المتحدة قوية وقادرة على تصحيح نفسها ذاتيًا، بل أصبحت المعايير والممارسات الديمقراطية الأساسية تضعف، ويتجه النظام السياسي نحو حالة تتوافق مع تعريف "الاستبداد التنافسي" بدلًا من الديمقراطية الليبرالية الكلاسيكية. يقصد الكُتاب بالاستبداد التنافسي وجود هياكل ديمقراطية رسمية مثل الانتخابات الدورية، وتنافس الأحزاب، والفصل الشكلي بين السلطات، فى حين يسيء المسئولون استخدام سلطة الدولة ومؤسساتها لخدمة مصالحهم. وفي الأنظمة السلطوية التنافسية تُجرى الانتخابات، وتعمل الأحزاب المتنافسة بشكل قانوني، وقد تفوز قوى المعارضة في بعض الأحيان، لكن الحزب أو الزعيم الحاكم يتلاعب بالقواعد، ويستخدم مؤسسات الدولة كأدوات سياسية، ويقوّض المنافسة العادلة من خلال الترهيب، والمحسوبية، والمضايقات القانونية، والسيطرة على الإعلام. والنتيجة هي بيئة سياسية تستمر فيها المنافسة الانتخابية، لكنها غير عادلة ومنحازة ضد المعارضة، مما يقوض المساءلة الديمقراطية والحريات المدنية.
أشار الكُتاب إلى أن الديمقراطية الحقيقية لا تعتمد فقط على النصوص الدستورية، بل أيضًا على القواعد غير المكتوبة واحترام قواعد اللعبة. وعندما ينكر السياسيون الرئيسيون شرعية الخصوم، أو يشجعون العنف، أو يظهرون التزامًا ضعيفًا بالإجراءات الديمقراطية، تنهار تلك المعايير، وهو ما فعله ويفعله ترامب منذ خسارته انتخابات 2020. ومع سيطرته المطلقة على الحزب الجمهوري، تخلى الحزب الأقدم في العالم عن المعايير الموضوعية خلال انتخابات 2020 وفي مواقفه السياسية اللاحقة، مما أدى إلى تآكل الثقة في الانتخابات، والتشكيك في شرعية المؤسسات، والترويج لمنطق المعادلة الصفرية "نحن أو هم"، وسط استقطاب سياسي لم تشهد أمريكا له مثيلًا على مدار تاريخها الممتد لـ250 عامًا.
إلا أن أكثر ما يشغل علماء السياسة المهتمين ببقاء ونجاح الديمقراطية الأمريكية هو دعوة ترامب المباشرة وغير المباشرة إلى اللجوء للجيش والقوات المسلحة. فقد ألمح ترامب إلى أنه يجب استخدام الجيش الأمريكي ضد فئة من المواطنين الذين وصفهم بأنهم "العدو الداخلي" للبلاد، مما أثار مخاوف في الأوساط السياسية من نواياه المستقبلية. وقال ترامب إن هناك تهديدات خطيرة تتعرض لها الولايات المتحدة، مضيفًا أن هناك "العدو الخارجي، ثم لدينا العدو في الداخل، والعدو الداخلي، في رأيي، أكثر خطورة". وشرح ذلك بالقول: "المشكلة الأكبر هي الناس في الداخل. لدينا بعض الأشخاص السيئين للغاية. لدينا بعض المرضى، المجانين اليساريين الراديكاليين. وأعتقد أنه يجب التعامل معهم بسهولة من قبل الحرس الوطني أو الجيش إذا لزم الأمر". وعلى الرغم من جهود ترامب لتسييس الجيش، لا تزال القوات المسلحة الأمريكية مؤسسة محترفة للغاية، وبالتالي يُصعب تسييسها. كما تُعد الفيدرالية سلاحًا قويًا يحمي ضد هيمنة الفيدرالية الأمريكية.
ترى الدراسة أن الانزلاق نحو السلطوية التنافسية حقيقي وملحوظ، لكنه ليس حتميًا بعد. ويشير الكُتاب إلى أن المؤسسات الديمقراطية، مثل المحاكم المستقلة، والنظام الفيدرالي، والمجتمع المدني، لا تزال قادرة على الصمود. ومن ثم، سيعتمد المسار المستقبلي على مواقف الفاعلين السياسيين، والمجتمع المدني، والناخبين أنفسهم. وتختم الدراسة بأن الولايات المتحدة ليست في أزمة استبدادية كلاسيكية تتسم بالانقلابات العلنية أو القمع المباشر، بل تشهد تحولًا أكثر دقة نحو الاستبداد التنافسي، حيث تبقى المؤسسات الديمقراطية قائمة رسميًا، لكنها تضعف بشكل منهجي نتيجة إساءة استخدام السلطة وتآكل المعايير الديمقراطية.
أصدر ترامب خلال أشهر حكمه الإحدى عشرة هذا العام 221 أمرًا تنفيذيًا، متجاوزًا إجمالي ما صدر في ولايته الأولى التي استمرت أربع سنوات. وهدفت هذه الأوامر في أغلبها إلى توسيع سلطاته الرئاسية، وتهميش الكونغرس، وتسييس أجهزة إنفاذ القانون. وواجه نحو ثلث هذه الأوامر طعونًا قضائية، وسط انتقادات تتهمه باختبار حدود الدستور وفرض أجندة ثقافية واقتصادية متشددة، في وقت يهيمن فيه على المحكمة العليا قضاة قريبون أيديولوجيًا من ترامب وحزبه الجمهوري.
خلال سنوات ترامب الثلاث القادمة في البيت الأبيض، ستشهد المحاكم الأمريكية معارك ضارية حول دستورية ما يقوم به الرئيس الأمريكي، الذى يغازل فكرة خوض السباق الرئاسي مجددًا عام 2028، سعيًا إلى فترة حكم ثالثة بالمخالفة الصريحة لنص المادة الدستورية رقم 22، التي تمنع شغل المنصب لأكثر من فترتين مهما كانت الدوافع والظروف. كما ستضعنا انتخابات الكونغرس القادمة في نوفمبر 2026 أمام سيناريوهين: إما رئيس يخدم آخر سنتين من حياته السياسية كرئيس "بطة عرجاء" إذا سيطر الديمقراطيون على أحد مجلسي الكونغرس أو كليهما، أو رئيس تدعمه سيطرة جمهورية على الكونغرس، بما يصعّب من مواجهة سعيه للإضرار بالديمقراطية الأمريكية.
(الشروق المصرية)

