مثلت عملية «طوفان الأقصى» مفاجأة للعالم أجمع، حتى حماس لم تكن تتوقع نجاحا وتأثيرا هكذا، ورغم الصدمة والارتباك في تل أبيب إلا أن الأخيرة رأت فيما يحدث فرصة لإدخال مخططاتها حيز التنفيذ والإجهاز على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة معاً. إن هدف اسرائيل يتجاوز الانتقام المزعوم من حماس، والقضاء التام عليها وفق تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي، حيث تسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية والاستيلاء على غزة والضفة عبر التهجير القسري للفلسطينيين باتجاه مصر والأردن. لم يكن أحد يتصور طرد الفلسطينيين من أراضيهم وإعلان دولة اسرائيل قبل عام 1948، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، بتفاصيل مختلفة، وكون الهدف هذه المرة هو القضاء التام على حل الدولتين وحق الفلسطينيين التاريخي في دولة مستقلة.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الـ78، سبتمبر الماضي، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتانياهو خريطة لا تتضمن أي إشارة لوجود دولة فلسطينية، حيث طغى اللون الأزرق، الذي يحمل كلمة إسرائيل، على خريطة الضفة الغربية المحتلة كاملةً، بما فيها قطاع غزة. سبق ذلك انتقادات حادة وجهها لوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، عندما عرض خريطة لإسرائيل في باريس تضم الأراضي الفلسطينية، مؤكداً أنه: لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، وأنه اختراع وهمي لم يتجاوز عمره الـ100 سنة!. يلقى المخطط الإسرائيلي دعماً أمريكياً واضحاً حيث تبناه مستشار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر فيما عُرف بـ«صفقة القرن» التي قدمها كـفرصة القرن في المنامة يوم 25 يونيو 2019، وعرض خرائط تدمج غزة في أجزاء من سيناء بدعوى إقامة منطقة اقتصادية.
يؤكد هذا الإصرار الإسرائيلي مواصلة العملية العسكرية لتطال جنوب غزة، والرفض التام لوقف إطلاق النار، رغم الاحتجاجات المطالبة بوقف الحرب واستعادة الأسرى عبر المفاوضات داخل اسرائيل، والخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي. كما يؤكده حجم الدمار الذي تقوم به اسرائيل في الأراضي الفلسطينية والذي طال حتى المستشفيات والمدارس للقضاء على فرص الحياة بالكامل بعد قطع المياه والكهرباء والغاز، ومنع الفلسطينيين من تفقد منازلهم والعودة إلى الشمال رغم الهدنة، ووصل الأمر حد إطلاق الرصاص الحي عليهم بدعوى أن الشمال «منطقة حرب»، وتشديد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي على أنه لن يُسمح بأي شكل بتنقل السكان من جنوب القطاع إلى شماله أثناء الهدنة، ليصبح الأمر إخلاء ممنهجا لقطاع غزة.
يضاف إلى ما تقدم مجموعة من المصالح المباشرة المرتبطة بالسيطرة الإسرائيلية الكاملة على غزة، أهمها إحكام السيطرة على غاز شرق المتوسط، ولهذا أهميته في هذا التوقيت بالنظر لحاجة السوق الأوروبي للغاز في ضوء الأزمة الأوكرانية وتوقف إمدادات الغاز الروسي. وتقدر احتياطيات النفط والغاز في الأراضى الفلسطينية بنحو ١٫٥ مليار برميل من الخام و١٫٤ تريليون قدم مكعبة من الوقود الأزرق، حسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، وقد أشار المؤتمر في تقرير له إلى أن علماء جيولوجيين واقتصاديين في مجال الموارد الطبيعية أكدوا وقوع الأرض الفلسطينية المحتلة فوق خزانات كبيرة من النفط والغاز الطبيعي، في المنطقة (ج) من الضفة الغربية المحتلة وساحل البحر المتوسط قبالة قطاع غزة. ويعد حقل غزة مارين، الواقع على بعد نحو 30 كيلومترا من ساحل غزة بين حقلي الغاز العملاقين لوثيان وظهر، من حقول الطاقة المهمة في منطقة شرق المتوسط، ويحتوي على ما يزيد على تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، وسبق وأن منعت اسرائيل أي محاولة لتطويره واستغلال ثرواته من جانب السلطة الفلسطينية.
كذلك مشروعا ميناء بنجوريون، وقناة بنجوريون، وأهمية إحيائهما وطرحهما كجزء من البنية التحتية لمشروع الحزام والطريق الذي يتم وضع خطط تمويله في الصين.
ومن المفترض أن تربط قناة بنجوريون خليج العقبة بالبحر المتوسط، أي أنها تُطرح كبديل لقناة السويس، وأشارت إليها مذكرة أمريكية تعود إلى عام 1963، تم رفع السرية عنها عام 1996، تبحث إمكانية استخدام التفجيرات النووية لشق القناة وحل مشكلة تكلفة الحفر. وظهرت الفكرة مجددا عام 2015 في مقال بصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية، وفي نوفمبر من العام الماضي أعلنت اسرائيل بدء العمل في قناة بن جوريون، في غضون شهرين،كما نشر موقع نيو بيزنس إثيوبيا في مارس 2023 تقريراً حول مساع تقوم بها إثيوبيا لشراكة مع إسرائيل في مشروع القناة. ويختصر احتلال غزة طول القناة مما يخفض كلفة حفرها، ويجنب الحاجة للدوران حول غزة لإنشائها.
إن ما تقوم به اسرائيل في غزة والضفة هو خطة مدروسة بدقة، وتعد أولوية لأي حكومة اسرائيلية حالية أو قادمة، لا سيما مع الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل، وغياب الحديث عن وقف إطلاق النار، ومرحلة ما بعد العملية العسكرية الإسرائيلية. ما أشبه اليوم بالبارحة، وعودة بالذاكرة إلى الماضي القريب والبعيد تؤكد أن اسرائيل لا تتحرك برد الفعل وأن لديها مخططا استعماريا، لقد فصلت من قبل قطاع غزة عن الضفة تمهيداً للانقضاض عليهما معاً، وحصاد مصالح وأهداف حيوية، ضاربة عرض الحائط بالقانون الدولي ومبادئه القانونية والإنسانية، وغير مبالية بتشريد ملايين الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط الحقوق وأهمها ... الحق في الحياة.
("الأهرام") المصرية