في طريقي إلى ميونيخ، إحدى مدن جنوب ألمانيا، لحضور مؤتمر للأمن، كان يجلس بجواري في الطائرة، شاب فلسطيني في منتصف الثلاثينيات، يشع بالحماسة السياسية والحيوية الثقافية والإرادة الصلبة، تعارفنا، قادتنا الدردشة إلى التجول حول الملفات والقضايا الساخنة، التي باتت تُنهك العالم، «جائحة كورونا»، إلى الحرب الروسية - الأوكرانية، الأزمات الاقتصادية الضاغطة، وصولًا إلى القضية الفلسطينية، حيث سألني الشاب: لماذا كل الاحتلالات في العالم، بدأت وانتهت، ما عدا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين؟
أجبت الشاب في حينها عن هذا السؤال، لكنني تذكرت نفس السؤال وتأملته جيدًا، يوم الاثنين الماضي، عند اقتحام مدينة «جنين» بالضفة الغربية، لأجدني أمام مشوار مؤلم وطويل، تحمّل الفلسطينيون فيه الكثير، في جميع الحروب التي شهدتها خرائط المنطقة والعالم، فكل الاحتلالات كانت لها نهاية إلا هذا الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور الفلسطينيين منذ 75 عامًا، قدموا خلالها الغالي والنفيس، مئات الآلاف من الضحايا، وملايين من اللاجئين في مختلف دول العالم.
أحداث كثيرة عالمية بدأت وانتهت: الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، أخذت وقتها، ثم انتهت بنهاية أحد القطبين، وقعت حروب في كوريا، وفيتنام، وأفغانستان، والهند، وباكستان، وسجل التاريخ نهايتها، وفي المنطقة العربية شهدنا حروب 1973،1967،1956، والحرب الأهلية اللبنانية، وحروب الخليج الأولى والثانية، والثالثة، التي شهدت غزو العراق عام 2003، وصولاً إلى أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي».
كل هذه الحروب اندلعت، ثم انطفأت، لكن هذا الاحتلال الإسرائيلي، لا تزال فصوله تتواصل، قتلًا، وهدمًا، وتدميرًا، واعتقالًا، واجتياحًا مستمرًا للمناطق الفلسطينية والمقدسة ومنها المسجد الأقصى.
أجيال وراء أجيال، من الشعب الفلسطيني تواصل الصمود، وتؤمن بحق تقرير المصير، وإقامة وطن لا يعرفون غيره، وطن يجمعهم وفق حقوقهم التاريخية المشروعة، التي تنطلق من كل الأعراف والقوانين الدولية.
لم يئنوا أو يكلوا عن السعي من أجل إقامة دولتهم المستقلة، طرقوا كل الأبواب، بادروا بمباحثات وبمعاهدات واتفاقيات سلام، طافوا العالم، بدءًا من مؤتمر مدريد عام 1991، مرورًا باتفاقية أوسلو عام 1993، وغزة - أريحا أولًا عام 1991، وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، وصولًا إلى مفاوضات واي ريفير عام 1998، ومفاوضات طابا عام 2001، ومبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002، ومفاوضات أنابوليس عام 2007، حتى مباحثات السلام التي قادها وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، جون كيري عام 2014.
كل هذه المباحثات والجهود والمبادرات والاتفاقيات لم تلقَ استجابة حقيقية من الجانب الإسرائيلي بمختلف فئاته السياسية.
وهذا اليأس من عدم تحقيق نتائج لكل هذه المحاولات، قاد المشهد والقضية إلى مسارات أخرى، لم يكن لها بديل، وهي مسارات المقاومة المشروعة للدفاع عن الدولة، أرضًا وشعبًا وسلطة، فضلًا عن أن كل القوانين الدولية والإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية، تعطي الحق للشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه، وتحرير أرضه، وتقرير مصيره، وحقه الإنساني في العيش والكرامة والتعليم.
وبرغم ذلك أيضًا، لم تعرِ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بمختلف ألوانها السياسية، أي اهتمام لهذه القوانين الدولية أو الحقوق الفلسطينية.
إذن، عندما نتتبع هذه المسيرة الصعبة والمؤلمة للقضية الفلسطينية، نجد أن إسرائيل تغرد خارج أسراب السلام، دون النظر إلى كل هذه الحقوق، وأنّ غياب أي أفق سياسي نحو السلام، لا يؤثر فقط في القضية الفلسطينية، بل إنه يزيد من تأزيم الأوضاع في المنطقة والإقليم، ويدفع إلى تجاذبات وصراعات، ربما تؤثر في السلام الدولي بشكل عام.
وسط كل هذه المتغيرات والتحولات التاريخية، التي مرت بها القضية الفلسطينية، لا بديل عن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، فمن دون إقامة هذه الدولة، وحصول الفلسطينيين على حقوقهم المشروعة، لن يتحقق السلام في الشرق الأوسط.
(البيان)