كلما واصلت إسرائيل سياساتها العنصرية وجرائمها المتتالية ضد الشعب الفلسطينى، برز نفس السؤال ونفس الحيرة الفلسطينية والعربية عما يمكن عمله، وتتكرر عناوين عديدة، وفى كل مرة نحتاج إلى بلورة أبعاد المعضلة، والتساؤل: لماذا تضيق الخيارات إلى هذا الحد، ولماذا يبدو العالم ساكنًا وظالمًا إلى هذا الحد؟!.
ونقطة البدء التى يجب تذكرها أنّ مشروع اليمين الإسرائيلي لن يتوقف بالحوارات الرشيدة ولا بالحجج القانونية، فالسياسة الإسرائيلية وصلت إلى منعطف لا تستطيع إلا السير فيه، فرئيس الوزراء (بنيامين) نتنياهو، الذى يمثل بفكره وسلوكه أحد أبعاد هذا الفكر اليمينى العنصرى المتطرف، دخل فى تحالفات اضطرارية مع اليمين الديني المتعصب كي يبقى فى الحكم، ولا يُحاسَب قضائيًّا على التجاوزات المتهم بشأنها، حتى لو كان أقل تطرفًا وأشد براجماتية من هذا اليمين الديني المتعصّب.
ولقد كتبت فى هذا الموضع كثيرًا عن أن هذا اليمين هو الذى يستقيم مع الفكرة الصهيونية الاستيطانية العنصرية، وأن التقاليد الديمقراطية التى أرساها الآباء المؤسِّسون لهذه الدولة من اليسار الإسرائيلى لا تستقيم مع طبيعة الفكرة الصهيونية ذاتها، وأن اتجاه إسرائيل بهذا التطور المتصاعد فى العقود الأخيرة نحو اليمين هو صيرورة طبيعية، وأنه بسبب تناقضات التركيبة السياسية تحتاج إسرائيل دومًا إلى التصعيد العسكري والرد بقوة لمنع أي تهديدات تعرقل التوسع الاستيطانى وابتلاع الأراضي، ومن ثَمَّ ستستمر هذه الحلقة المتكررة من الإجراءات الإسرائيلية المستفزة للشعب الفلسطينى وحقوقه، وتوليد أي رد فعل يبرر اللجوء إلى المزيد من العنف.
ومربط الفرس هنا أن هذه الضغوط الإسرائيلية هدفها حرمان الشعب الفلسطينى من أي شكل من الاحتجاج، بما فى ذلك السلمي أو حتى الأقل عنفًا، بما يسحب البساط من تحت أقدام إسرائيل بشأن "حربها ضد الإرهاب"، ونحن هنا لا نناقش أن المقاومة الفلسطينية المسلحة هي إرهاب، فهي حركة كفاح وطني مشروعة، ولكن التوازنات المحيطة بالصراع تشوّه هذه المقاومة، وتمارس مغالطات سياسية وفكرية ومعايير مزدوجة ليست في حاجة إلى الشرح، ومن ثَمَّ تترك للجانب الفلسطيني بدائل محدودة، وفى الحقيقة أن إبقاء الطابع العسكرى للصراع هو ما تريده إسرائيل لتنفيذ أهدافها.
ومن هنا كان تأكيدنا أن خيار المقاومة السلمية والتصعيد الدائم فى كل المحافل ضد التجاوزات الإسرائيلية هو أهم خيارات الشعب الفلسطيني، وطرحنا تحديدًا الاستفادة من تجربة الكفاح الجنوب إفريقي ضد النظام العنصري، ولكن الحقيقة التى لا ينبغي إغفالها أنّ هذا الكفاح واجه صعوبات كبيرة وأكاذيب غربية لسنوات وعقود طويلة، ولولا وجود كتلتين دعمتا هذا الكفاح، وهما الكتلة الاشتراكية وكتلة عدم الانحياز، لكانت معاناة الأغلبية السوداء مستمرة لفترة أطول، وهذا البُعد ما ينقص المواجهة الفلسطينية، وهذا أيضًا ما ينبغى أن ينتبه إليه العالم العربي، حيث إنه لا يمكن ترك الشعب الفلسطيني وحده فى المواجهة ضد التجاوزات الإسرائيلية، ونعلم أنه لا يمكن إعادة الأوضاع السابقة في المنطقة إلى ما كانت عليه حتى ثمانينيات القرن الماضى، ولكن أيضًا، وبحكم المصالح العربية وليس فقط التعاطف مع الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية المسيحية والإسلامية، فلن يكون من صالح المنطقة، بل ربما العالم، انتصار النموذج الظلامي العنصري فى إسرائيل، واستكمال كيان عنصري مغلق عدواني سيسلط عداءه ضد محيطه فى لحظة تاريخية أخرى، ومن ثَمَّ فإنه يجب بلورة خطاب إعلامي عربي مساند للخطاب الفلسطيني، وينشط فى وسائل التواصل الاجتماعى، وفى المجتمعات الرسمية والمدنية فى العالم الغربي بشكل خاص، يواجه ويفضح الخطاب الديني المتشدد، وينقل رسالة تنويرية ضد الفكر المغلق، ويطرح سردية جديدة، هى مساعدة الشعب الإسرائيلي على تجاوز هذا الفكر المغلق، الذى لا يتناسب مع الديمقراطية والقيم الليبرالية التى يتشدق بها الغرب، كما أن إبطاء وتيرة خطوات تطبيعية كانت قد بدأت مع إسرائيل في السنوات الأخيرة سيشكل ضغطًا وفرصة لمراجعات آن أوانها في ظل الظروف الراهنة.
ويجب عدم الاستهانة بأهمية مواصلة الضغوط في المحافل الدولية، وخاصة مع الخطاب الغربي الراهن الداعم لأوكرانيا، والذى يتبجح بالمعايير المزدوجة، فمن الوارد أن إحداث ضجة سياسية وضغوط متواصلة في زمن السيولة الدولية الراهنة قد يشكل ضغطًا على الحكومات الغربية والأمريكية وإحراجًا لها، في وسط خطابها الدعائى الراهن ضد روسيا.
وفى النهاية لا يمكن للشعب الفلسطيني مواصلة القدرة على الصمود فى ظل اختلال هذا التوازن مع الاحتلال الإسرائيلي دون جهود حقيقية لإصلاح البيت الفلسطيني، وإنهاء الانقسام الجاري، وليس أمام هذا الشعب أيضًا من بديل سوى إدراك عرب إسرائيل أن مسار الأمور يتجه نحو الأصعب والأعقد أمامهم، وأن عليهم التوحد والمشاركة الجادة في نفس خانة القوى المعادية لهذا اليمين، وحتى لو واصلت هذه القوى خيانة مبادئها ووعودها، مثلما فعلت كل مرة، ولكن ببساطة لأن اكتمال خطط اليمين الإسرائيلي سيُحول عرب إسرائيل إلى أقل من مواطنين من الدرجة الثانية، فهدف اليمين الديني تفريغ إسرائيل من هذا المكون بشكل تدريجي، وأخيرًا رغم كل الصورة القاتمة، فإن إمعان إسرائيل فى التطرف ربما يكون أقوى سلاح يمكن للشعب الفلسطيني توظيفه لاستعادة حقوقه المشروعة.
(المصري اليوم)