الفكرة تأتي من العدم، وتتحول لشيء ما، قد يكون مفيداً، أو مضراً، ورويدا رويدا، يمسي واقعا، هكذا نشأت إسرائيل من العدم، فكرة تبناها البعض، واقترح تنفيذها أحدهم، فكانت النشأة على أرض فلسطين، وكانت من الممكن أن تكون في أي بقعة أخرى، والاقتراحات معروفة.
أما الفلسطينون، فهم أصحاب الأرض، هم تاريخ طويل وكبير، يضرب بجذور راسخة و قديمة قدم الزمن في أقصى أعماق الأرض، ليسوا فكرة، ولا حلما، فأعمار الكثيرين من الفلسطينيين أكبر من عمر إسرائيل بعدة سنوات!
نشأة إسرائيل ليست سرا نجهله، ولكنه واقع مرير يعيشه العرب، وكلما تسعى إسرائيل لإقناع محيطها بأهميتها، تسقط في بئر سحيقة من العنصرية والهمجية والكراهية لكل ما هو فلسطيني، تحتاج لعدة عقود حتى تخرج منه.
فعلت ذلك في حرب يونيو، حينما اعتدت على مصر واحتلت سيناء، واعتدت على سوريا و احتلت الجولان، وسوقت لفكرة أنها دولة لا تٌقهر، حتى جاءت لحظة الحقيقة الساطعة، وأعطت مصر إسرائيل والعالم كله درسا عسكريا يتم تدريسه حتى اليوم في أفضل المعاهد العسكرية، في فنون القتال، واستردت سيناء كاملة، بعد ست سنوات، كل ذلك بدا واضحا في ست ساعات!
من بعدها ظلت إسرائيل تسوق لقوتها، وفي هذا السياق تتلقى الضربة تلو الأخرى، حتى جاء يوم السابع من أكتوبر الماضي، وتلقت إسرائيل ضربة لم يكن يتوقعها أكثر المتشائمين من الإسرائيليين.
ضربة أكدت أنها دولة هشة، دأبت على صناعة صورة ذهنية كاذبة عن قدرتها العسكرية الفائقة والأعتى في المنطقة، لتؤكد المقاومة الفلسطينية زيفها.
ما فعلته إسرائيل في غزة، ليس فقط مجرّمًا ومحرّمًا دوليًا وفق كل القوانين و الأعراف، ولكنه يثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها تريد إبادة الشعب الفلسطيني، وطرده من أرضه، المسعى واضح، وتدمير البيوت والبنية التحتية، وخنق الفلسطينيين في غزة واغتيال الأطفال والنساء أكثر وضوحا، ظنا منهم أنهم يقتلون مستقبل فلسطين.
وهنا أردد ما ذكرته سيدة فلسطينية ثلاثينية العمر كما تبدو، تقول في أحد التسجيلات المصورة، أتمنى أن ألد 10 ذكور ليصبحوا رجالا مقاومين، ولن أحزن لو ماتوا فداء الوطن، فهناك عدد غير محدود من النساء مثلي، وقد يكون ذلك تفسيرا لمعدل الانجاب العالي جدا للفلسطينيين، فقد حباهم الله بمعدل خصوبة قد يكون الأكبر في العالم.
مع نشأة إسرائيل، جاء إليها اليهود من كل صوب وحدب، ومع ذلك لم يتم الانسجام بينهم بشكل فوري، بل إنه حتى اليوم يوجد بينهم بعض التمييز، فليسوا جميعا على قدم المساواة.
هذا لمن اختاروا طواعية الولوج لإسرائيل، فما بالك بمن يذهب قسرا لدولة أخرى؟
عدد اللاجئين في العالم تخطوا بنهاية عام 2022 حاجز الـ 35 مليون نسمة، يتوزعون على عدد كبير من دول العالم، منهم من تعايش وفق منظومة الحياة داخل الدول الحاضنة، ومنهم من يسعى و يجتهد.
أزمات اللاجئين، تتحدث عنها أوروبا ليل نهار، تشكو عاداتهم وسلوكهم، وتتمنى لو لم يكن هناك لاجئون، ناهيك عمن يهربون إليها بشكل غير رسمي، وهم كثر، متخيلين أنها أرض يمكن فيها تحقيق الأحلام!
فما الحال عندما يتعلق الأمر بتهجير الفلسطينيين، كما تدعو إسرائيل؟ الإجابة بسيطة للغاية.
بعد ما ارتكبته إسرائيل من مجازر دموية خالية من أي درجة للرحمة، قتلت فيها بدم بارد الآلاف من الأطفال و النساء والشيوخ .. إلخ. على مرأى و مسمع من كل دول العالم، حتى فاق عدد الشهداء حاجز الـ 23 ألف إنسان، بخلاف عدد - قد يكون أكبر - قابع تحت أنقاض ركام مخلفات قصف البيوت والمدارس والمستشفيات التي نزح لها عدد كبير جدا من الفلسطينيين، التي هدمت منها ما يفوق الـ 70% من بيوت الفلسطينيين!! مع رقم يتخطى حاجز الـ80 ألف جريح؛ النسبة الأكبر منهم حالتهم صعبة للغاية. كل هذه المجازر، شاهدها وعاشها الشعب الفلسطيني؛ كما عايش الموقف الدولي المخزي من قضيته، ثم بعد كل تلك التضحيات والدماء الزكية المبذولة أملا في استعادة الحقوق المسلوبة، نطلب منهم بهدوء شديد، ترك أرضهم والذهاب لدولة أخرى، أيا كان مسمى ذلك الإجراء، تهجيرا طوعيًا كان! أو قسريًا، وننتظر حال حدوث ذلك استقرارًا للأمور! عجيب أمر هذا العالم المتخاذل، يغض الطرف عن جرائم إسرائيل، وينتظر ما تسفر عنه مجازرها، وأيضا يتوقع أن يكون تهجير الفلسطينيين أحد الحلول!!
ما نتيجة زرع نبات في أرض لا تناسبه، سيموت النبات بلا شك، فلو كان النبات إنسانا عاقلا، تسكنه كل طاقات الغضب والألم من جرائم عدو يحتل أرضه، يتم ترحيله وهو الاسم الصحيح لعملية التهجير الطوعي كما يزعمون، ثم نطلب منه بكل بساطة أن ينسى كل ما عاشه من ظلم وانتهاك لأرضه و عرضه ووطنه، ويبدأ حياة جديدة.
إذا افترضنا أن هناك عددا استطاع أن يبدأ حياته من جديد، فمن المؤكد أنه في المقابل هناك من يصعب عليه ذلك، فيتحول لقنبلة موقوتة من الغضب، على وشك الانفجار بين لحظة و أخرى. ثم نتساءل عن الأسباب، ونحن نعلمها جيدا ولكن العالم تغافل! يجب وأد فكرة تهجير الفلسطينيين قبل أن تنشأ، فيأتي يوم و تتحول لواقع مرير، ويندم عليه العالم، ويدفع مقابلها ثمناً باهظا.
الفكرة يمكن أن تموت وتنتهي، كما نشأت من فراغ، تذهب إلى لا شيء، أما الوطن فلا يمكن له أن يموت، يموت مواطنوه دفاعا عنه، يبذلون الغالي والنفيس، يبذلون الأرواح، والأبناء، فيذهب جيل و يأتي غيره، ولكن الوطن لا يذهب.
فما دفعه الفلسطينيون طيلة الـ75 عامًا المنقضية، لن يذهب هباءً، والأمثلة كثيرة، قد يكون أبرزها وائل الدحدوح خسر زوجته وأبناءه و أحفاده، وما زال يدافع عن وطنه. علّ العالم يعي.
("الأهرام") المصرية