صحافة

إسرائيل.. ومعضلة "اليوم التالي"

يحيى عبدالله

المشاركة
إسرائيل.. ومعضلة

لم تبلور إسرائيل، حتى الآن، وبعد مرور أكثر من 100 يوم على اجتياحها قطاع غزة، موقفا رسميا بشأن اليوم التالي للحرب. التخبط هو سيد الموقف: هل ستحتل قطاع غزة؟ هل ستقيم منطقة عازلة بينه وبين مستوطنات وبلدات ما يُسمَّى بالغلاف؟ هل ستقيم مستوطنات به كما كان قبل «فك الارتباط» به في 2005؟ هل ستشرك السلطة الفلسطينية في إدارته؟ هل ستختار من أهل القطاع أناسا، تثق في ولائهم، ليديروا شؤونه؟ هل ستعمل على تهجير سكانه البالغ عددهم أكثر من مليوني شخص؟ هل ستأتي بشخصيات قيادية فلسطينية من خارج القطاع؟ هل ستسعى إلى وضع القطاع تحت وصاية دولية؟. كلها سيناريوهات متداولة في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي.

إلى جانب التخبط، هناك مخاوف من ألا تستطيع إسرائيل القضاء، أصلا، على حماس في القطاع، إذ ما تزال حماس في وضع قوي، كما يقول جلال البنا («يسرائيل هيوم»، 27/12/2023)، وقادرة على «إطلاق الصواريخ، وإصابة البطن الرخوة لإسرائيل، وإدارة المعركة، وإصابة جنود بشكل يومي، فضلا عن أنها تجري مفاوضات مع كبار مسؤولي الحركة بشكل معلن ــ عبر دولة ثالثة ــ من أجل وقف لإطلاق النار وتبادل للأسرى».

من الواضح، إذًا، أن الحديث عن «اليوم التالي» حديث افتراضي، إذ إن الأهداف التي وضعتها إسرائيل للحرب لم تتحقق، فما تزال قيادة حماس تدير المعركة من داخل غزة، وما يزال القوام الأكبر لقواتها، التي تقدر بـ«نحو 30000» مقاتل، بحسب، نوعم أمير («ماكور ريشون» 25/12/2023) موجودا، مشيرا إلى أن «كل محاولة لبناء خطط مستقبلية هي في حكم الكلام الفارغ». وإذا افترضنا، جدلا، أنها قضت عليها، فليس هناك ما يضمن ألا تعود الحركة لحكم القطاع، بعد فترة من الوقت، إذ لا سبيل «لضمان ألا تعود لحكم القطاع»، كما يقول، موردخاي قيدار («ماكور ريشون» 24/12/2023)، لكونها مكونا مهما من مكونات الشعب الفلسطيني، وفصيلا يحظى بشعبية ليست بالهينة.

وثمة من يرى أن «اليوم التالي» مصطلح إشكالي، قد لا يأتي، أصلا، ومنهم المستشرق الإسرائيلي، دورون متسا، («يديعوت أحرونوت» 15/12/2023) الذي يرى أن المعركة الحالية ضد غزة «حرب استنزاف طويلة المدى تستهدف إضعاف إسرائيل، والإضرار باقتصادها وبتفكيكها خطوة خطوة»، مشيرا إلى أنه قد حدث خلال العامين ونصف الأخيرين «انقلاب في التوجه، تبنى فيه الخصم فكرة المعركة بين الحروب، وحوَّلها إلى منهج عمل، بدعم وبمشاركة غير مباشرة من جانب إيران وحزب الله»، وأن الهدف من وراء هذا النهج الجديد هو «إعادة الشرق الأوسط إلى سياسة الهويات التقليدية القائمة على محددات أيديولوجية قومية ودينية، وتقويض النظام الاستراتيجي الذي جرى بناؤه في العقد ونصف الأخير، وبلغ ذروته في توقيع اتفاقيات «أبراهام»، وأوشك أن يتطور إلى توقيع اتفاق للتطبيع مع السعودية»؛ ومن ثم يخلص إلى استنتاج مفاده: «أنه لا معنى في الحقيقة لمصطلح «ما بعد الحرب»، نظرا لأن الحرب من المفترض أن تستمر في ساحات مختلفة وبوتيرة متغيرة، حتى بعد انتهاء النشاط العسكري في غزة».

من الشواهد الدالة على تخبط إسرائيل بشأن «اليوم التالي»، أنها لم تشرع في مناقشة المسألة، إلا متأخرا وبعد إلحاح أمريكي، وتساؤلات من جانب الجماعة الدولية، والإعلام الإسرائيلي والغربي، وأنها أرجأت النقاش حولها ثلاث مرات لأسباب يتعلق بعضها بالمناكفات السياسية داخل الائتلاف الحكومي الإسرائيلي. هنا، يُطرح السؤال: هل لدى إسرائيل، حقا، خطة لـ«اليوم التالي»، لما بعد انتهاء الحرب ضد غزة؟ هناك تصريحات للاستهلاك المحلي، ولمغازلة الرأي العام الإسرائيلي، أبرزها تصريحات، رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الذي فقد كثيرا من شعبيته، بسبب فشل التصور الذي تبناه، وروَّج له لسنوات، عن استحالة إقدام حماس على مهاجمة إسرائيل؛ ومن هنا، نفهم رفضه، الظاهري، لكل السيناريوهات التي تتعلق بغزة بعد الحرب: «لن أسمح بأن تحل فتحستان (أي السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في رام الله) محل حمسستان»، «لن تكون هناك دولة فلسطينية»، «لن نسلم غزة لقوى خارجية»، «لن نخضع لضغط دولي بما في ذلك من الولايات المتحدة الأمريكية».

كثير من اللاءات الموجهة، في الأساس، إلى الداخل الإسرائيلي، والدليل على ذلك، أن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، برئاسة تساحي هنجبي، المقرب من نتنياهو، وبالتعاون مع وزير الشؤون الاستراتيجية، رون ديرمر، المقرب هو أيضا منه، يجري منذ بضعة أسابيع سلسلة من النقاشات بهدف وضع خطة لمسألة السيطرة العسكرية، والسياسية، والمدنية في قطاع غزة في اليوم التالي للحرب؛ وأن رئيس المجلس، كتب مقالا (في موقع «إيلاف» السعودي ــ ربما لربط السعودية بما يتبلور من حلول!) أشار فيه إلى شروط إسرائيل لإعادة السلطة الفلسطينية لحكم غزة، مما يعني أنه لا يوجد رفض إسرائيلي مطلق، من حيث المبدأ، لفكرة السلطة الفلسطينية، ولكن بعد «تطويرها وتحديثها»، كما يريد الأمريكيون. لكن الانطباع السائد، كما تقول، آنا بيرسكي («معاريف» 6/1/2024) هو أن إسرائيل «تحاول بكل ما أوتيت من قوة تجنب الكشف عن خططها الحقيقية إزاء اليوم التالي».

وإذا كان هناك تكتم على الخطط الرسمية، فإن سيل التصريحات من جانب كبار المسؤولين الإسرائيليين بشأن هذا «اليوم التالي»، يكشف عن النوايا، وما يدور داخل الغرف المغلقة، من أبرزها، تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف جالانت («يديعوت أحرونوت» 4/1/2024)، بأن إسرائيل «ستسعى للحفاظ على حرية العمل العسكري (داخل القطاع)، وستشرف على البضائع، وسيكون الفلسطينيون مسؤولين شرط ألا يكونوا معادين لإسرائيل»، فيما صرح وزير المالية وزعيم حزب «الصهيونية الدينية»، بتسلئيل سموتريتش («يديعوت أحرونوت» 4/1/2024) بأن الحل في غزة «يستوجب تفكيرا من خارج الصندوق وتغيير التصور عبْر تشجيع الهجرة الطوعية والسيطرة العسكرية الكاملة بما في ذلك استئناف الاستيطان»؛ أما زعيم حزب «شاس»، أرييه درعي، الذي شارك بشكل دائم في نقاشات مجلس الحرب فقد ألمح إلى أن النية الإسرائيلية تتجه إلى «البقاء في قطاع غزة بقوات كبيرة لسنوات إلى أن نتأكد أن التهديد قد زال ولم يعد لزعماء حماس وجود»، («معاريف»، 11/1/2024). ونستشف من التصريحات الثلاثة، أن هناك نوايا إسرائيلية لإعادة احتلال غزة عسكريا، وأن الحديث عن الانتقال إلى ما يُسمَّى بـ«المرحلة الثالثة» من الحرب يؤكد هذه النوايا، إذ أبقت إسرائيل، بعد انسحابها من شمال القطاع، على وجود عسكري يسمح لها بتنفيذ عمليات محددة، وستفعل الأمر نفسه في وسط وجنوب القطاع.

وإلى جانب تصريحات كبار المسؤولين، فإن ثمة أفكارا، يتناقلها قادة الرأي، وتنشرها الصحافة الإسرائيلية، منها ما طرحته آنا بيرسكي («معاريف» 6/1/ 2024) بشأن عكوف إسرائيل على فحص قائمة من كبار المسؤولين الفلسطينيين السابقين لاختيار واحد منهم توليه مقاليد الحكم في غزة، من بينهم، محمد دحلان، وما طرحه البروفيسور آفي برئيلي، («يسرائيل هيوم» 10/12/2023) ونوعم أمير («ماكور ريشون» 25/12/2023) بشأن وجوب سيطرة إسرائيل على كل المعابر مع غزة، بما في ذلك محور «فيلادلفي» ــ صلاح الدين ــ ومنها ما طرحه، عومر دوستري، عضو حركة «الأمنيين» ــ حركة من كبار العسكريين السابقين ــ («يديعوت أحرونوت» 27/12/2023) بشأن الاعتماد على سياسة المناورة، وعنصر الوقت، وفرض الحقائق على الأرض، والحلول المرحلية، التي ستجبر اللاعبين المنخرطين في الصراع على إيجاد حلول مرحلية، ربما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية؛ ومنها ما أشار إليه جلال البنا («يسرائيل هيوم»، 27/12/2023) من أن الحكومة الإسرائيلية لن تستطيع إدارة ظهرها للزعامة الفلسطينية، ولن تستطيع النظر إلى السلطة الفلسطينية بوصفها مقاولا من الباطن جُل نشاطه التنسيق الأمني وتسيير أمور البلديات الفلسطينية، ومنها تحذير طوفا هرتسك، سفيرة إسرائيل السابقة في دول البلطيق وجنوب إفريقيا («يديعوت أحرونوت»، 2/1/2024) من تجاهل فكرة إقامة دولة فلسطينية، مشيرة إلى أن ما يُسمَّى باتفاقيات أبراهام وكل الخطط المستقبلية من هذا القبيل لن تحل المشكلة: «إذا لم تكن هناك دولة فلسطينية، فماذا إذا؟ استيطان متسارع؟ ماذا سيكون رد الفلسطينيين أنفسهم على ذلك؟ ما تداعيات ذلك على صعيد الجماعة الدولية؟ بعد أن قيل لنا من الذي لن يحكم غزة، من سيحكمها إذا؟ هل هي إسرائيل؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما المعنى؟».

والحقيقة، أن ما أشارت إليه طوفا هرتسك، يضع النقاط على الحروف، إذ إن غياب أفق سياسي لن يحل المشكلة، حتى وإن احتلت إسرائيل قطاع غزة، كما أن تجاهل شعبية حماس وتجذرها داخل الجماعة الفلسطينية، سيُفشل، حتما، كل السيناريوهات والخطط المحتملة. وأغلب الظن، أن إسرائيل ستسعى إلى فرض هيمنتها العسكرية على القطاع في المنظور القريب إلى أن تبلور بالتفاهم مع الولايات المتحدة الأمريكية حلا طويل الأمد.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن