صحافة

حرب غزة وسقوط القناعات والأقنعة

حسين هريدي

المشاركة
حرب غزة وسقوط القناعات والأقنعة

صرح بنيامين نتنياهو يوم الخميس ١٨ يناير الحالي انه ابلغ الإدارة الأمريكية انه يعارض اقامة دولة فلسطينية مستقبلا. جاء هذا التصريح بعد ان كان وزير الخارجية الأمريكية انتوني بلينكن قد أعلن أمام الدورة ٥٤ لمنتدى دافًوس قبل الإدلاء بالتصريح المشار اليه ان اندماج إسرائيل في الشرق الأوسط سيمر عبر اتخاذ خطوات فعلية لتنفيذ حل الدولتين.

عند تحليل تصريح نتنياهو، حري بنا ان نضعه في سياقه التاريخي، وحتى نستوعب بصورة عميقة وشاملة هذه الحرب الشعواء على قطاع غزة والتي مر عليها اكثر من مائة يوم، وعلاقة إستراتيجية الحرب هذه بالحلم الصهيوني باقامة دولة إسرائيل، كما وردت في كتابات منظري الصهيونية العالمية، وتحديدا فلاديمير جيف جابوتنسكي مؤسس تيار الصهيونية الدينية التي دعت الى إنشاء دولة إسرائيل من البحر المتوسط وحتى الأردن. ومن المعروف ان حزب الليكود- الحيروت سابقا- يؤمن بأن هذه المساحة هي ارض إسرائيل، والتي ستتحدد بموجبها الحدود الجغرافية النهائية للدولة اليهودية.

منذ ان وصل نتنياهو للحكم في ٢٩ مايو ١٩٩٦ وهو يسعى بشتى الطرق لقطع الطريق على تنفيذ اعلان المبادئ ـــ اتفاق أوسلو ـــ الموقع في واشنطن في ١٣ سبتمبر ١٩٩٣ بين الراحل ياسر عرفات عن منظمة التحرير الفلسطينية وإسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، والذي اغتيل في نوفمبر ١٩٩٥ نتيجة للحملة الشعواء التي شنها المستوطنون واليمين الإسرائيلي على هذا الاتفاق، وكان نتنياهو من المحرضين الرئيسيين ضد إعلان المبادئ. وقد اوضح رابين في تفسيره للتوقيع على الاتفاق انه ادرك ان الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام ١٩٦٧ لم تعد ضرورية لتوفير الأمن لبلاده، بل العكس هو الصحيح، فتلك الأراضي اصبحت مصدرا لتهديد أمنها. واستطرد ان حرب الخليج الأولى وتعرض إسرائيل لصواريخ سكود التي اطلقتها القوات العراقية على الأراضي الإسرائيلية أفضت به للاعتقاد ان الأراضي لم تعد الضمانة لتوفير الأمن للدولة العبرية. واشار الى انه إذا ما قررت إسرائيل الاستمرار في احتلال هذه الأراضي فسيكون عليها ان تقر عما إذا كانت ستسمح للفلسطينيين بالضفة الغربية بالمشاركة في الانتخابات الإسرائيلية، ونظرا للزيادة السكانية للفلسطينيين، فستفقد إسرائيل في هذه الحالة طابعها اليهودي خلال عدة عقود، وأما إذا حرمتهم من هذا الحق فلن تصبح دولة ديمقراطية.

بانتخاب نتنياهو في مايو ١٩٩٦، عمل منذ اليوم الاول على إفراغ اتفاق أوسلو من امكانية ان ينتهي بإقامة دولة فلسطينية. بطريقة لا لبس فيها انهم تبنوا طريق السلام، فان إسرائيل يمكن ان تفكر في منح سكان جوديا وسامريا الجنسية الإسرائيلية بعد فترة تهدئة تمتد لفترة ٢٠ سنة، وهو يرى ان تتحول الضفة الغربية الى الحائط الصلب الذي يساعد على تحقيق الحلم الصهيوني. في هذا السياق اعتبر ان المستوطنات تعد مواقع إمامية للدفاع عن إسرائيل. وقال في مناسبات لاحقة ان اي تنازلات قد يوافق عليها الفلسطينيون ستكون محدودة، وعليهم ان يدركوا انهم لن يحصلوا إلا على سيادة منقوصة. ولم يتردد نتنياهو ان يصارح الجميع من فلسطينيين او عرب او في ادارة كلينتون بحقيقة مواقفه تجاه القضية الفلسطينية. ففى اول قمة له مع الراحل ياسر عرفات يوم ٤ سبتمبر ١٩٩٧ طلب الزعيم الفلسطيني وقف بناء المستوطنات في جميع الأراضي المحتلة، فرد نتنياهو قائلا: انه لا مجال لذلك. وفي اليوم التالي خاطب نتنياهو اعضاء اللجنة المركزية لليكود حيث اكد انه لن تكون هناك دولة فلسطينية أبدا بين البحر المتوسط ونهر الأردن.

في ٢ اكتوبر ١٩٩٧ عقد كلينتون قمة بالبيت الأبيض دعا اليها كل من الراحل الملك حسين وياسر عرفات ونتنياهو، وخاطب العاهل الأردني الأخير قائلا انه كان قد طلب من القادة العرب في قمتهم التي كانت قد انعقدت بعد انتخاب نتنياهو ان يمنحوك فسحة من الوقت، لكن - الحديث ما زال للملك حسين رحمه الله - الأحداث تشير الى انك رجل ذو معتقدات ايديولوجية قوية، معربا عن أمله ان يتحلى نتنياهو بحكمة وشجاعة رابين مستطردا انه لم يشعر بهذه الدرجة من القلق على منطقة الشرق الأوسط من قبل.

الأمر الذي لم يكن يعلمه العالم في هذا الوقت ان رئاسة الأركان الإسرائيلية كانت قد أعدت في يونيو ١٩٩٧ خطة جهنمية في عهد الحكومة الاولى لنتنياهو لإحكام السيطرة على الضفة وقطاع غزة نراها اليوم تنفذ امام أعيننا تضمنت قصفا جويا ومدفعيا كثيفا ضد أهداف رئيسية في الأراضى المحتلة عقب اي هجمات ينفذها الفلسطينيون لإنزال العقوبةً بهم. واجتياح الضفة والقطاع لكسر المقاومة، ويصاحب ذلك اعتقال او اغتيال قادة حركات المقاومة. اعتقال قادة السلطة الفلسطينية مع فرض إدارة عسكرية جديدة. إخضاع الأراضي الفلسطينية لحصار اقتصادي بالتوازي مع وقف تحويل الأموال للفلسطينيين. السيطرة على مصادر الطاقة الكهربائية وإمدادات المياه. الإجلاء القسري للفلسطينيين من بعض قطاعات حساسة. التحكم في نفاذ وسائل الإعلام الى الأراضي المحتلة، مع إطلاق حملة دعائية مكثفة من أجل التأثير على الرأي العام المحلي والعالمي.

أحفاد جابوتنسكى والصهيونية الدينية يقوضون اليوم بلا هوادة وبالحديد والنار كل فرص السلام في الشرق الأوسط. على ضوء ما تقدم لا مجال في المرحلة الراهنة للحديث عن إسرائيل وإدماجها في المنطقة، وستظل فلسطين في القلب وتحية لصمود الشعب الفلسطيني وللمقاومة الفلسطينية الباسلة.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن